التحولات الفنية والعروضية في القطعة الشعرية (صوت أخرس) للشاعرة افتخار هديب
يشكل هموم الوطن والواقع السياسي- الاجتماعي هاجسا للاديب والفنان يتقد في وجدانه ويأخذ حيزا رحبا في اعماله ونشاطاته ، ولقضايا وهموم واقعنا في الشرق الاسلامي حصة الاسد في مستوى التفاعل والتأثير لكونها تتشح على مرّ التاريخ الوسيط والحديث بلون الاحزان والمآسي والمنعطفات التأريخية الحادة..
وهكذا.. نجد في مثل هذه القطعة الشعرية مثالا دالا في الاثر والتأثير النفسي والفكري..
اذ نلمس في مضمون القطعة مناجاة الحالم بوطن حرّ ونسمع تداعياته كأنه يفكر بصوت عال يعبر حدود الهمس ، هو صوت الصابر الذي تحسبه يتأرجح بين الامل واليأس كمن لجّ في عينيه القذى ، وهو يحمل هم الوطن والمظلومين واليتامى في شرقنا الاوسط بلونه الاحمر والاسود حيث (ثنائية الدم والحزن) وبمسارات حاضره وأفقه التي لا يكْنَفُها الا ضباب المصير وسوءة الظلم الطغاة.. وحيث يبدو الاسلام غريبا عن ديار نشأته ، يتيما كأيتام الفقراء فيه وحيث تكون العروبة فريةً لاواقعَ لها وموصوفٌ للابتلاء ورمزٌ معادل للقهر والتطرف..
وكأن شخصية (رجب) في رواية عبد الرحمن منيف (شرق المتوسط) تشخص امام اعيننا بمعاناتها واحلامها وبصورة الحيف وبشاعة الظلم وقسوة الحياة في بلاد لاتعيش الا بشعارات الكرامة والعدالة و(دين القيّمة) الذي لم نتمثله سلوكا وعملا صالحا في مجتمعنا ورعيتنا في ضوء الموائمة النبيلة بين الحق والواجب..
امّا من ناحية فنية فقد وُضِعت في بداية كل مقطع منها ثيمته الدالة عليه من (مفردتين) لتناظر مسار الحلم والتداعيات وهو ينتقل من حال الى حال عبر تصوير الواقع في كل مقطع :
(جمرٌ ..جمرْ) ، (صبرٌ..صبرْ) ، (قدَرٌ..قدرْ) ، (قهرٌ.. قهرْ) ، (عسْرٌ..عُسرْ)…الى (احَدٌ..أحدْ)
وعلى سبيل المثال :
جاء المقطع الاول بدالة الجمر : هو وصف درامي للواقع المعاش حين نرى الحقائق مقلوبة :
اذ يكون اللئيم ضحية، والقتيل محاسبا والموؤدة في سقر !
والمقطع الثاني جاء بدالة الصبر : وهو يتصل بالمقطع الاول ويصور ما آل اليه سلوكنا من كتم المشاعر بوجل وحسرة وغيظ في ظل واقع الخنوع والتسلط
(تبكي الجراحُ خنوعَنا… والانينُ محرمٌ)
وجاء المقطع الثالث بدالة القدر : ليصور موت الارادة الذي يطوي جوانحنا اذ تُسيرُنا الاقدار كما تشاء ، ويصف حال ايامنا كريح صرصر لا تبقي ولاتذر..
وهكذا..فكل مقطع ينقلنا من حال الى آخر بدالة جديدة : فهنالك دالة للقهر ، وللعسر تتجلى لنا بلاغيا في صورٍ من لاجدوى الحال والاشياء حيث يكون الشتاء بلا مطر والقيثارة بلا وتر..
وهناك دالة للاثر تصور -كذلك- ان لاجدوى لأمجادنا التليدة حين تمسي سرابا او محرقة دخان بلا شرر..
ولعلنا في المقطع الاخير بدالة الفجر نلمس شيئا من امل يحاكي واقعنا ، ويستنهض الحال حين تكون دماء قلوبنا النازفة سقيا ووردا لمرابع الورد والازهار في ارضنا ، ويكون الفجر كريما حين نهتدي ، وتعلو بنا الامواج لتقودنا الى النصر على واقع مذل بائس وخنوع الذات..
اما المقطع الاخير (احَدٌ..احَد) :
فهو بيت القصيد لذلك كان اطولها مقطعا واجملها تصويرا ، فهو دالة في التوجه الى الله وذلك يعني التمسك بحوله وهديه وشريعته التي تدعو للثبات على الحق وعزم الارادة لنهضة الحرية والسلام
حيث تضرم نار المواجد وتكون صرخة الحق -كالرعد- ملئ المواجع وحيث لايُسمعُ في الافق صوتا الا صوت اليتامى..
# البناء العروضي للقطعة
* مقدمة المقطع :
بُني ايقاع المفردتين في مقدمة كل مقطع على تفعيلة خبب البحر المتدارك (فعِلن) ، وقد جاءت مضمرة ومقطوعة :
- المفردة الاولى :
جاءت تامة (فعِلن) مثل قدَرٌ ، أثَرٌ
او مضمرة (فعْلن) بتسكين العين مثل صَبْرٌ ، عُسْرٌ
- المفردة الثانية : جاءت مقطوعة في كل المقاطع (فعِلْ) -بتسكين اللام- مثل قدَرْ ، أثَرْ
* اما مقاطع القطعة ، فيمكن النظر في بنائها العروضي من زاويتين :
اولا :
* باعتبار مقاطعها من (شعر التفعيلة) الحديث فيكون البناء العروضي للمقاطع على المقاربة بين تفعيلتي البحر المتدارك وخببه (فاعلن) ، و(فعِلن) التي وردت كما اسلفنا تامة، ومضمرة (فعْلن) -بتسكين العين- او مقطوعة (فعِلْ) -بتسكين اللام-
اما تفعيلة (فاعلن) فقد جاءت تامة، غير انها وردت -مرة واحدة- مقبوضة لتصير (فاعلُ).
وقد جاءت نهاية كل شطر على تفعيلة (فعِلْ) في اغلب المقاطع ، وكانت اشطر المقاطع تامة (اربع تفاعيل) ومجزوءة احيانا (ثلاث تفاعيل) ، لكنها لم ترد مشطورة (بتفعيلتين) الا في مقدمة المقطع.
ولنأخذ - على سبيل المثال-هذه المقاطع
- صبْرن... صبِر
فعْلن..فَعِلْ
- اضحل/لئي/م ضحي/يتن
فعْلن/فَعِلْ/فعِلن/فَعِلْ
- ول قتي/لمحا/سبن
فاعلن/فعِلن/فَعِلْ
- وَالمَوءودَةُ فِي سَقَر
ول مو/ءو دةُ/في سقر
فعْلن/فاعلُ/فاعلن
-------------------
- صَبْرٌ .. صَبِرْ
فعْلن..فَعِلْ
- تَبكِي الجِرَاحُ خُنُوعَنَا
تبكل/جرا/ ح خنو/عنا
فعْلن/فَعِلْ/فعِلن/فَعِلْ
- وَ الأَنِينُ .... مُحرَّمٌ
ول أني/ن محر/رمن
فاعلن/فعلِن/فَعِلْ
- بَاتَ الإِبَاءُ فِي خَطَرْ
باتل/ابا/ءو في/خطر
فعْلن/فعِلْ/فعْلن/فعِلْ
--------------------
قَدَرٌ .. قَدَرْ
فعِلن..فَعِلْ
- نَمشِي إِلَيهِ بِطَوعِنَا
نمشي/الي/هي بطو/عنا
فعْلن/فَعِل/فاعلن/فَعِلْ
- كَصَرصَرٍ… أَيَّامُنَا
كصر/صرن/اييا/منا
فَعِلْ/فعِلْ/فعلن/فَعِلْ
- لَا تُبقِي… وَ لاتَذَرْ
لا تُبْ/قي ولا/تذر
فعْلن/فاعلن/فَعِل
-------------------------------
ثانيا :
من زواية ثانية هل يمكن ان نعدّ مقاطعها شعرا بايقاع النظم العمودي التقليدي مع تنوع القافية ؟
في هذه الحالة.. وبمراعاة بعض التغييرات المطلوبة في سياق النص نجد ان مجزوء الكامل (متَفاعلن متَفاعلن) هو اقرب ايقاع يمكن ان يحكم المقاطع الشعرية التسع..
ومن جوازات متَفاعلن الاولى : ان تكون مخبونة لتؤول (مفاعلن)/ ومضمرة لتكون متْفاعلن -بتسكين التاء- وتنقل الى مستفعلن
ولنأخذ -على سبيل المثال- هذه المقاطع مع الاخذ بنظر الاعتبار التغييرات البسيطة التي ذُكرت (بين قوسين) في سياق النص لتطابق المعنى وتناسب الايقاع :
1- أَضحَى اللَّئِيمُ ضَحِيَّةً
اضحل لئيْ/ مُ ضحي يتن
مستفعلن/متفاعلن
2- (وذا القتيلُ.. مُحَاسَبٌ)
وذل قتي/ لُ محاسبن
مفاعلن/متفاعلن
3- (كإِنِ الضّحيّةَ في سقر)
كإِنِضْْ ضَحِيْ/ يَةَ في سقرْ
متفاعلن/ متفاعلن
4- تَبكِي الجِرَاحُ خُنُوعَنَا
تبكل جرا/ حُ خنوعنا
مستفعلن/متفاعلن
5- (وتَرى الأنينَ محرَّماً)
وتَرلْ أني/نُ مُحَرْمُن
متفاعلن/متفاعلن
6- (باتَ الاباءُ على خَطَرْ)
باتلْ إبا/ ءُ عَلَى خَطرْ
مستفعلن/متفاعلن
7- نَمشِي إِلَيهِ بِطَوعِنَا
نمشي الي/هِ بطوعنا
مستغعلن/متفاعلن
8- كَصَرصَرٍ .... أَيَّامُنَا
كصرْصرن/أَيْيَامُنا
مفاعلن/متفاعلن
9- (لاتُبْقِنا.. وقَذَىٍ تذر)
لا تُبْقِنا/ وَقَذَن تَذر
مستفعلن/ متفاعلن
*************************************
النص الشعري (صوت أخرس)/ للشاعرة افتخار هديب :
(جَمْرٌ .. جَمِرْ
أَضحَى اللَّئِيمُ ضَحِيَّةً
وَ القَتِيلُ ... مُحَاسَبَاً
وَ المَوءودَةُ فِي سَقَرْ
صَبْرٌ .. صَبِرْ
تَبكِي الجِرَاحُ خُنُوعَنَا
وَ الأَنِينُ .... مُحرَّمٌ
بَاتَ الإِبَاءُ فِي خَطَرْ
قَدَرٌ .. قَدَرْ
نَمشِي إِلَيهِ بِطَوعِنَا
كَصَرصَرٍ .... أَيَّامُنَا
لَاتُبقِي .... وَ لاتَذَرْ
قَهْرٌ .. قَهِرْ
صَمتُ المَذَلَّةِ صَوتُنَا
وَ الصُّرَاخُ ... مُؤَجَلٌ
غَيمُ الشِّتَاءِ بِلَا مَطَرْ
عُسْرٌ .. عُسُرْ
لَيلٌ و صَرخةُ ثَائرٍ
وَ اضْطِرَامُ حَرَائِقٍ
قِيثَارَةٌ .... بَلَا وَتَرْ
أَثَرٌ .. أَثَرْ
أَمجادُنا ... التَّلِيدَةُ
تَارِيخُ نَبضِ سِيُوفِنَا
مِحرَقَةٌ ... بِلَا شرَرْ
عِطْرٌ .. عِطِرْ
فَاضَتْ دِمَاءُ قِلُوبَنَا
وَ حُقُولُنَا قَد أَينَعَتْ
بِالوُرُودِ وَ بِالزَّهِرْ
فَجْرٌ .. فَجِرْ
ضَوءُ المَنَارَةِ هَديُنَا
أَموَاجُنَا تَعلُو بِنا
تقودُنَا إِلى النَّصِرْ
..
..
أَحَدٌ .. أَحَدْ
جبْتُ الشّوَارَعَ وَ البلَدْ
خَاطَبتُ الكَهلَ وَ الوَلَدْ
أَضْرَمتُ نَارَ مَواجِدِي
ذَرَفتُ دَمعَاً مُتَّقِدْ
بَحَثتُ عَنْ صَوتِ الإِلَهْ
سِوَى اليَتَامَى لَمْ أَجِدْ
صَرَختُ مِلْءَ مَوَاجِعِي
فِي صَرخَتِي غَضَبُ الرَّعدْ
عَانَقتُ حَزنَ مَرَاكِبِي
مُبحَرَةً بِلا وَعِدْ
فَأَجَابَنِي رَجْعُ الصَّدَى
لَا غَيرَكَ دَومَاً لِي سَنَدْ
نَأَيتُ عَنْ دُنْيَا السَّرَابِ
رَفَعْتُ نَبضِي وَ العَمَدْ
أَعلُو خِبَاء جَوَارِحي
قَلبِي لِغَيرِكَ مَا سَجَدْ
#كُنْ_مَعَنَا_يَاالله)
----------------------------------------------------------
ملاحظة/
# للشاعرة افتخار هديب قصيدة آخرى بعنوان (لا تساوم) على البحر المتقارب..
تحمل ذات الهم الانساني للوطن وتحمل في دلالتها معاني المقاومة وكرامة الشهادة التي تجعل من ذلك الجندي المجهول نبراسا خالدا يتقد من جوى الحب والاجلال في ضمير الاحرار ومثابة للكرامة والاباء وعنوانا للسلام والحرية وهو يرسم بدمه للأجيال افق الغد نديّا صافيا جميلا...
#لا_تُسَاوِمْ!!
وَ إِنْ حَرَمُوكَ حُقُوقَ الحَياةْ
وَ إِنْ كَسَرُوا فِيكَ قَوسَ الرُّماةْ
وَ إِن جَندَلُوك بِوَسطِ الفَلاةْ
فَأَنتَ رَصَاصٌ بِقَلبِ الطُّغَاةْ
تَمَائِمُ نَصرِ الشُّجَاعِ العَنِيدْ
سَلاماً لِرُوحِكَ رُوحِ الشَّهِيدْ
*****
#لا_تُسَاوِمْ!!
وَ إِذ مَا اصطَفَاكَ يَمامُ النُّعُوشْ
جَسُوراً يُقَوِّضُ عَزمَ الجيُوشْ
فَـفِي مُقلَتَيـكَ انْهِيَـارُ العُرُوشْ
بِـظِلِّ الـجِنَـانِ نَـقَـاءُ الـرُّمُـوشْ
عُـذُوبَـةُ فَـجـرٍ جَـلِـيٍّ جَـدِيـدْ
سَلَامـَاً لِـرُوحِكَ رُوحِ الشَّهِيـدْ
*****
#لا_تُسَاوِمْ!!
إِذَا اتَّـهَـمُـوكَ بِـسُـوءِ النَّـوَايَـا
وَ أَلقُـوا عَلَيـكَ سَـوَادَ الرَّزَايَـا
فَـأَنـتَ الجـنَـاحُ لِـكُلِّ البَـرَايَـا
بِـنُـورِ اليَـقِيـنِ تَقُـودُ السـَّرَايَـا
قَـلَائِـدَ صِـدقٍ بِـيَـومٍ مَـجِيـدْ
سَلَاماً لِـرُوحِكَ رُوحِ الشَّهِيـد
*****
#لا_تُسَاوِمْ!!
وَ إِنْ هَـدَّدُوكَ بِـنَـشـرِ البَـلَاءْ
فَكَأسُ المَنـَايـَا شَـدِيدُ النَّـقـَاءْ
و َشَـدوُ البَلَابِلِ هَمسُ السَّمَـاءْ
بِنَجوَى العُيُونِ خُشُوعُ الدُّعـَاءْ
تَـرَاتِـيـلُ حُـبٍّ أهـَازِيـجُ عـِيـدْ
سَلَامَـاً لِـرُوحِكَ رُوحِ الشَّـهِيـدْ
*****
#لا_تُسَاوِمْ!!
صَهِيـلُ الخِيُولِ وَ عَصفُ الرِّيَاحُ
وَ خُطـوَاتُ عُمـرِكَ دَربُ الكِفَـاحْ
تُحِـبُّ الجِنَـانُ خِضَـابَ الجِـرَاحْ
وَ كَـأسٌ دِهَــاقٌ بِــعَـذبِ القَـرَاحْ
ظِـلَالٌ وَ أَيـكٌ وَ حُـورٌ وَ غِـيـدْ
سـَلَامَـاً لِـرُوحِـكَ رُوحِ الشَّـهِـيـدْ
*****
#لا_تُسَاوِمْ!!
فَـهـُمْ قَـارَعُـوكَ بِـبُـسـتَـانِ دَارِكْ
بِـأَرضِ الجِدُودِ لِـقَـطفِ ثِـمَـارِكْ
اِسـتَبَاحُوا ثَـرَاكَ وَ قَبـرَ جِـوَارِكْ
أَعَـاصـِيـرُ مَـوتٍ رُعُـودٌ قَـرَارِكْ
وَ مَـوتٌ زُؤَامٌ يَـفِـلُّ الحَـدِيـدْ
سَلَامَـاً لِـرُوحِـكَ رُوحِ الشَّـهِـيـدْ
*****
#لا_تُسَاوِمْ!!
فَـوَهجْ الجِـرَاحِ صَلِيلُ السُّيُـوفْ
وَ جُرحُـكَ وَردٌ بِـرغـمِ الحُتُـوفْ
دُرُوبُ الـمـَنَـايَـا رُعُــودُ الأِلُـوفْ
بِـوَحدَةِ شَـعبٍ وَ رَصِّ الصُّفُـوفْ
بِـكَسـرِ الـقُـيُـودِ بِـمـاضٍ تَـلِـيـدْ
سَـلَامَـاً لِـرُوحِـكَ رُوحِ الشَّـهِـيـدْ
--------------------------------------------
نظمت هذه القصيدة على البحر المتقارب الذي يعرف بأيقاعه الغنائي الجميل..
وان حَ/رموكَ/حقوقل/حياة
فعولُ/فعولُ/فعولن/فعولْ
وان كَ/سرو في/كَ قو سُر/رماة
فعولُ/فعولن/فعولن/فعولْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق