موت المهاجرين قسرا بين الامس واليوم/ قراءة لرواية رجال في الشمس ، ومأساة كاتبها الشهيد غسان كنفاني..
*من ذاكرة شهر آب/اغسطس*
موت المهاجرين قسراً بين الامس واليوم/ قراءة لرواية رجال في الشمس ، ومأساة كاتبها (الشهيد غسان كنفاني)..
لقد بات معروفا ان البلاد العربية هي اكثر بقاع الارض التي شهدت وتشهد -بشكل دوري- ظاهرة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وموجات النزوح والهجرة ، وهي مرتع دائم للطغاة والولاة الفاسدين ومركز عريق القدم للظلم والاستبداد..
وقد تجاوز -اليوم- عديد المهاجرين والمهجرين العراقيين والسوريين في الالفية الثالثة نظرائهم من فلسطيني نكبة 1948 ، بعد ان بزغ نجم ! الارهاب التكفيري والفتن الداخلية في سماء الخريف العربي ليتعدى حدود ارهاب ومجازر العصابات الصهيونية التي سبقت حرب نكبة 48 في المدن والقرى الفلسطينية..
واذا كان المهاجرون الفلسطينيون في رواية (رجال في الشمس) للروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني التي شكلت بأحداثها وشخوصها كما يشير الناشر (اطارا رمزيا لعلاقات متعددة تتمحور حول الموت الفلسطيني بعد النكبة) ، والتي سأعرض -بأيجاز ادناه - حبكتها ومعالمها الفنية الذي ميّزها كرواية عالمية مع مأساة اغتيال كاتب الرواية من قبل الموساد الاسرائيلي..
اقول اذا كان اولئك المهاجرين قسرا بعد النكبة الذين تعرضوا للظلم والحيف خارج الوطن وهم يسعون لكسب عيشهم ، يمثلون صورة رمزية لعبث الموت خارج الوطن حيث قضوا اختناقا في خزان شاحنة أُعِد لتهريبهم من البصرة الى الكويت تحت شمس آب (اغسطس) اللاهب في الصحراء الذي احال الخزان الى جهنم واحال الصحراء الى قبر.. فقد بات اليوم حال المهاجرين العرب الفارين من جحيم الاوطان سيما من العراق وسوريا اعمق دلالة وأثرا حيث صار الغرق وقاع البحر وبطون الحيتان هي النهاية المحتملة لآلاف المهاجرين الفارين من نار وقسوة الاوطان المحررة ذات السيادة !!
بعد ان سادت وتمترست المنظمات الارهابية التي ضمت في تشكيلها شركاء في الوطن وسياسيين فاسدين..
وهكذا.. نرى ان صور موت المهاجرين ان تعددت فلا يختلف فيها الاطار اوالمعنى حيث الماساة وقسوة الموت صمتا بلا اهل ولا احباب..
ومن هذا الباب تظل رواية (رجال في الشمس) التي كتبها غسان كنفاني عام 1962 ونشرت عام 1963 في 96 او 93 صفحة من القطع المتوسط ، رواية كبيرة في موضوعها ، ورواية معاصرة في رمزيتها اذ تجمع القاسم المشترك بين مأساة اليوم والامس ، كما انها رواية عالمية وان تناولت - بشكل خاص - ماساة اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة لانها صورت انسانيا مآسي واحلام المهجرين عن الاوطان ولهذا ترجمت الى سبعة عشر لغة منها الانكليزية والفرنسية والالمانية والروسية والهولندية والمجرية والسويدية..
*******************************
احداث الرواية -بايجاز- :
1* تصف رواية رجال في الشمس تأثيرات نكبة 1948 على تهجير الفلسطينيين خارج وطنهم ، بعد ضغط وتمدد العصابات الصهيونية التي قامت بأكبر المجازر البشرية في القرى والمدن الفلسطينية على مرّ التأريخ قبل الحرب..
كشف الروائي اشكالية الهجرة من خلال اربعة نماذج (شخصيات) فلسطينية من اجيال مختلفة ، ف(ابو الخيزران) يعمل سائق لشاحنة (تانكر ماء) تنتقل بين البصرة والكويت وهي معروفة الهوية مع سائقها ومالكها في نقطتي الحدود العراقية والكويتية (سفوان والمطلاع) ، وابو الخيزران من جيل المقاومين الاوائل وكان قد فقد رجولته في حرب 1948 عندما انفجرت قنبلة اولغم ارضي امامه حيث سقط على وجهه واحسّ حينها بألم فظيع يتلولب بين فخذيه ، صار بعدها (خصيّا) مدى الحياة..
وثلاث من المهاجرين الفلسطينيين يرومون الهجرة من البصرة الى الكويت لتحسين دخلهم وسدّ ثغرات العوز في حياة عوائلهم وهم :
(ابو قيس العجوز الذي ما انفك يذكر ارضه وشجيراته ويحن الى قريته في فلسطين ، واسعد الشاب ومروان الفتى ولكل واحد منهم حكاية واحلام..)
واتفقوا جميعا مع ابي الخيزران على تهريبهم في شهر آب /اغسطس (اللهاب) بواسطة خزان الشاحنة الذي سيكون ملاذا لهم خلال مدة تأشير الاوراق عند بلوغ نقطتي الحدود في سفوان العراقية والمطلاع الكويتية..
2* نجحت الخطة في نقطة الحدود العراقية في سيطرة سفوان ..
لكن في نقطة المطلاع الكويتية تاخر السائق دقائق اضافية بسبب الحاح موظف عابث من السيطرة في الحوار مع السائق ابي الخيزران عن راقصة غانية اسمها (كواكب) تدعي علاقتها بابي الخيزران وتعجبها فحولته !! ، نقلا عن مالك الشاحنة (الحاج رضا) ، وكانت هذه الدقائق الاضافية كافية لقتلهم اختناقا في خزان الشاحنة الذي تحول الى جهنم تحت شمس آب المحرقة في الصحراء العراقية-الكويتية التي اضحت قبرا للمهاجرين الثلاث (ابو قيس/اسعد/مروان) حيث سحبهم ابو الخيزران خارج التانكر بعد نقطة المطلاع الحدودية في منطقة قريبة من مكب للنفايات تمر عليه سيارات البلدية لتتولى دفن الجثث..
سحبهم وهو يحدث نفسه متألما بصوت عال (لماذا لم يطرقوا جدار الخزان)..
*********************************
في اهم المعالم الفنية للرواية :
1- كتب الشهيد غسان كنفاني هذه الرواية بأسلوب (تعدد الاصوات الروائية) الذي كتب فيه باختين الروسي كتابه المعروف الرواية متعدة الاصوات ، ولعلها اغنى رواية عربية مبكرة استخدمت هذا التكنيك الروائي ، اذ جعل لكل شخصية فصلا مرويا بروايتها (ابو قيس/اسعد /مروان / الصفقة) وظهر امتداد شخصية السائق الفلسطيني ابي الخيزران من الفصل الثالث (مروان) وفصل الصفقة على حين جعل فصلي الطريق/الشمس والظل فصلا مشتركا للشخصيات الاربع لتكشف في الحوار نتائج الهجرة على اجيال مختلفة حيث يلمس القارئ اشكالات النكبة واحلام المهاجرين البسيطة وغلظة الحياة والبشر في الغربة.. ، لينتهي في الفصل الاخير (القبر) برواية السائق ابي الخيزران مرة ثانية لأنه الناجي الوحيد..
كما نلحظ في الفصول ان الراوي (العليم) لم يظهر الا في اللحظات الحاسمة في الراوية دون ان يحس القارئ بان هنالك تدخلا مباشرا محشورا بوعي مسبق مقصود بل جاء مكملا ومتناسبا مع سياق حديث الراوي وتداعيات افكاره..
2- اعتمد الراوي على الحوار الداخلي وتداعيات الافكار (المونولوج) في سرد الاحداث ، واجمل مقطع فيها هو الفصل الاول المروي بذاكرة (ابي قيس) وحنينه للوطن والقرية ، وصرخة ابي الخيزران في الفصل الاخير (القبر) للمهاجرين وهو يسحبهم موتى من الخزان الذي استحال في شهر آب فرنا شمسيا في الصحراء :
لماذا لم تطرقوا جدار الخزان ، لماذا لماذا ؟؟ يقول ذلك بعد سلسلة من تداخل الوعي والقبول بالامر الواقع والاحساس بالفجيعة وهو يرميهم -مكرها- خارج الشاحنة لتدفنهم سيارات بلدية الكويت..
لتكون هذه الصرخة تعبيرا رمزيا عن (موت المهاجر الفلسطيني وضرورة الخروج منه باتجاه اكتشاف الفعل التاريخي اوالبحث عن هذا الفعل) كما يقول الناشر ، ولعل الروائي كتب رواية (ماتبقى لكم) للبحث عن الفعل التاريخي باتجاه المقاومة والصمود..
3-اختار الروائي شخصيات من اجيال مختلفة للتعبير عن شمولية الفاجعة وتمددها بحيث يكون ضياع الوطن مكافئا ومسببا لمأساة المهجر والمهاجر وموته غريبا وحيدا.. بما يفقد قيمة وجوده الانساني واثره وتأثيره..
كما جعل شخصية السائق ابي الخيزران فاقدة للذكورة كتعبير رمزي عن الشخصية الانهزامية حيث تكون النفعية والرضوخ لامر واقع مهين هو سمات هذه الشخصية او كما يشير الناشر (نموذج القيادة الانتهازية) التي باتت تسعى -بعد النكبة وضياع الوطن- لمصالحها وقد اسرتها المنافع الشخصية واطفات في الروح جذوة المقاومة وشرف المسؤولية الانسانية للدفاع عن الوطن والارض والعرض..
3- في زمن الاحداث:
اختار الروائي قسوة الصيف في شهر آب وفي منطقة الخليج الحارة زمنا لرحلة المهاجرين ليؤكد عبثية الاقدار ، وعدم امكانية اختيار وتأجيل زمن الهجرة المناسب في ظل ظروف اللاجئ الاقتصادية والانسانية.
4- في موت المهاجر وقبره :
استدل الروائي على عبثية موت المهاجرين اوطانهم ، بان جعل سبب الموت تافها باردا وتجلى في الرواية بمزاح موظف فوضوي بليد الحس في نقطة الحدود بالمطلاع الكويتية مع السائق ابي الخيزران عن راقصة تعجبها ذكورة الخصي!! ، واصراره ان يسمع من ابي الخيزران عن نشاطه معها كما افاد (الحاج رضا !) مالك الشاحنة ، وكانت الدقائق الاضافية لحديث الموظف الفارغ هذا سببا في ازهاق ارواح ثلاث مهاجرين كانوا يسعون للحياة لا للموت..
كما جعل قبر المهاجرين عراء الصحراء قرب مكب للنفايات لعلها تمكن موظفي الخدمة من رؤية الجثث لتقوم بدفنها ، واراد الروائي ان تكون نهاية الغربة وترك الوطن هو معادلا لضياع الاحلام والموت الماساوي والقبر الغريب الذي لايعني احدا ولايزوره احدا..
5- ومما يجدر - في الختام- الاشارة له :
ان الرواية ترجمت الى لغات عديدة كما اسلفنا ، كما انها انتجت فيلما سينمائيا في مصر من اخراج توفيق صالح ، كما انتجت المؤسسة العامة للسينما في سوريا فيلما مبنيا على احداث الرواية نال جائزة مهرجان قرطاج..
*********************************
اغتيال كاتب الرواية (الشهيد غسان كنفاني) بشكل مأساوي قل مثيله :
قام الموساد الاسرائيلي الذي يمثل نموذجا متميزا لما يسمى سياسيا (بارهاب الدولة) في عام 1972 باغتيال الروائي غسان كنفاني لينالوا من كلمته الحرة ومن مواقفه الشجاعة في حملتها لتصفية النخب الوطنية الفلسطينية بطريقة بشعة ، اذ لغّموا سيارت ب (5 كيلوغرام من مادة التي ان تي ، مع قنبلة كبيرة ربطت بحرفة على عادم السيارة قادرة على نسف بناية بأكملها وبساكنيها).. فتشظى جسد الشهيد اشلاءً ولم يجدوا الا بقايا يده التي يكتب فيها ، وقد وجدت في موقع الانفجار ورقة مكتوب فيها :
(مع تحيات السفارة الاسرائيلية في كوبنهاكن) اشارة الى زوجة الروائي وهي دانماركية الجنسية وقد انجب منها الشهيد طفليه ، رحمه الله الباري وغفر له..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق