اشراقات من شعر وشاعرية مسلم بن الوليد
اشراقات من شعر وشاعرية مسلم بن الوليد ، كبير شعراء العصر العباسي الاول :
* في قضية اخفاء قبر الامام الحسين(ع) :
ذكر ابو الفداء في تاريخ ابن الاثير (البداية والنهاية) : ان الماء لما اجري على قبر الحسين عليه السلام ليمحي اثره جاء اعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمها حتى وقع على قبر الحسين فبكى وقال : بأبي أنت وأمي ما كان أطيبك وأطيب تربتك , ثم أنشأ يقول هذا البيت (لمسلم بن الوليد) :
(ارادوا ليخفوا قبرَه عن عدوهِ
وطيبُ ترابِ القبرِ دلَّ على القبرِ )
وبهذا الصدد نذكر امرين :
- يعدّ شاعر اهل البيت دعبل الخزاعي ان (مسلم بن الوليد) هو معلمه الاول ورفيق دربه ، ولاشك ان هكذا علاقة حميمة طيبة تكشف شيئا من الوجه الاخر للشاعر مسلم بن الوليد في محبة اهل البيت ، وان كان يلقب ب(صريع الغواني)..
- لم يلقب الشاعر مسلم بن الوليد بهذا اللقب لابتذاله واغراقه في المجون ، بل عرف عنه الحياء والكياسة وما كان يجاهر بارتكاب المعصية بل يحرص على كرامته ووقاره بين الناس ، لكن وصف (صريع الغواني) اطلقه عليه هارون الرشيد بعد سماعه هذا البيت الشعري الذي انشده في حضرته :
(هل العيش الا أن تروح مع الصبا
تغدو صريع الكاس ، و الأعين النجل)
و يقال ان أول من لقبه ب(صريع الغواني) هو القطامي لقوله :
صريع غوان راقهن ورقنه
لدنِ شب حتى شاب سود الذوائب
لدنِ شب : اي من عند وقت شبابه ، و(من) هنا مضمرة دلّ عليها (حتى) لأنها بمعنى إلى
و الذوائب: الضفائر من الشعر..
-------------------------------
* قال مسلم في مدح في داود بن زيد البيت المشهور :
(يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود)
* ما قاله مسلم بن الوليد/في مدح يزيد بن مزيد الشيباني يكشف عن جمال الصورة والمضمون :
أُجرِرتُ حَبلَ خَليعٍ في الصِبا غَزِلِ
وَشَمَّرَت هِمَمُ العُذّالِ في العَذَل
ِهاجَ البُكاءُ عَلى العَينِ الطَموحِ هَوَى
ًمُفَرَّقٌ بَينَ تَوديعٍ وَمُحتَمَلِ
كَيفَ السُلُوُّ لِقَلبٍ راحَ مُختَبَلاً
يَهذي بِصاحِبِ قَلبٍ غَيرَ مُختَبَلِ
يا مائِلَ الرَأسِ إِنَّ اللَيثَ مُفتَرِس ٌ
ميلَ الجَماجِمِ وَالأَعناقِ فَاِعتَدِلِ
حَذارٍ مِن أَسَدٍ ضِرغامَةٍ بَطَل
ٍلا يولِغُ السَيفَ إِلّا مُهجَةَ البَطَلِ
موفٍ عَلى مُهجٍ في يَومِ ذي رَهَجٍ
كَأَنَّهُ أَجَلٌ يَسعى إِلى أَمَلِ
يَنالُ بِالرِفقِ ما يَعيا الرِجالُ بِهِ
كَالمَوتِ مُستَعجِلاً يَأتي عَلى مَهَلِ
يَكسو السُيوفَ دِماءَ الناكِثينَ بِهِ
وَيَجعَلُ الهامَ تيجانَ القَنا الذُبُلِ
تَشاغَلَ الناسُ بِالدُنيا وَزُخرُفِها
وَأَنتَ مَن بِذَلِكَ المَعروفَ في شُغُلِ
أَقسَمتُ ما ذُبَّ عَن جَدواكَ طالِبُها
وَلا دَفَعتَ اِعتِزامَ الجِدِّ بِالهَزَلِ
يَأبى لِسانُكَ مَنعَ الجودِ سائِلُهُ
فَما يُلَجلِجُ بَينَ الجودِ وَالبُخلِ
----------------------------
* في باب المواعظ والحكم :
قَدِ اِطَّلَعتَ عَلى سِرّي وَإِعلاني
فَإِذهَب لِشَأنِكَ لَيسَ الجَهلُ مِن شاني
حَسبي بِما أَدَّتِ الأَيّامُ تَجرِبَة
ًسَعى عَلَيَّ بِكَأسَيها الجَديدانِ
دَلَّت عَلى عَيبِها الدُنيا وَصَدَّقَها
ما اِستَرجَعَ الدَهرُ مِمّا كانَ أَعطاني
-----------------------------
** من شعر مسلم بن الوليد في باب الغزل :
* عَجَباً لِطَيفِ خَيالِكِ المُتَجانِب
ِوَلِقَلبِكِ المُستَعتِبِ المُتَغاضِبِ
(ما لي بِهَجرِكِ وَالبِلادُ عَريضَة
ٌأَصبَحتُ قَد ضاقَت عَلَيَّ مَذاهِبي
أَبكي وَقَد ذَهَبَ الفُؤادُ وَإِنَّما
أَبكي لِفَقدِكِ لا لِفَقدِ الذاهِبِ)
جَلَبَ السُهادَ لِمُقلَتي بَعدَ الكَرى
وَنَفى السُرورَ مَقالُ واشٍ كاذِبِ
أَقصَيتِني مِن بَعدِ ما جَرَّعتِني
كَأساً لِحُبِّكِ ما تَسوغُ لِشارِب
ِلَو كانَ ما بي مِثلَ ما بِكِ لَم أَبِت
نَدمانَ أَحزانٍ صَديقَ كَواكِب
إِن كان ذَنبي أَنَّ حُبَّكِ شاغِلي
عَمَّن سِواكِ فَلَستُ عَنهُ بِتائِبِ
لَو رامَ قَلبي عَن هَواكِ تَصَبُّراً
ما كانَ لي طولَ الحَياةِ بِصاحِبِ
سَلَبَ الهَوى عَقلي وَقَلبي عَنوَة
ًلَم يُبقِ مِنّي غَيرَ جِسمٍ شاحِبِ
إِنّي لَأَستُرُ عَبرَتي بِأَنامِلي
جُهدي لِتَخفى وَالبُكاءُ مُغالِبي
الحُبُّ سَمٌّ طَعمُهُ مُتَلَوِّنٌ
بِفُنونِهِ أَفنى دَواءَ طَبائِب
ِيا سِحرُ قَد جَرَّعتِني غُصَصَ الهَوى
كَدَّرتِ بِالهِجرانِ صَفوَ مَشارِبي
أَشعَبتِ قَلبي بِالهَوى وَصَدَعتِهِ
بِالهَجرِ مِنكِ فَما لَهُ مِن شاعِب
ِصَبراً عَلَيكِ فَما أَرى لي حيلَة
ًإِلّا التَمسُّكَ بِالرَجاءِ الخائِب
ِسَأَموتُ مِن كَمدٍ وَتَبقى حاجَتي
فيما لَدَيكِ وَما لَها مِن طالِب
ِوَمُرَزَّأٌ فيهِ عَظيمُ مَصائِب
ِلا تَسأَلَنَّ عَنِ الهَوى إِلّا اِمرِءاً
خَبِراً بِطِعمَتِهِ طَويلَ تَجارِب
ِوَمُخَدَّراتٍ ناعِماتٍ خُرَّدٍ
مِثلِ الدُمى حورِ العُيونِ كَواعِب
وَسَفَرنَ عَن غُرَرِ الوُجوهِ كَأَنَّها
بِاللَيلِ مِصباحٌ بِبيعَةِ راهِبِ
حورٌ أَوانِسُ يَقتَنِصنَ بَأَسهمٍ
ٍُمِن طَرفِهِنَّ إِذا نَظَرنَ صَوائِبِ
زَرَعَ الشَبابُ لَهُنَّ رُمّانَ الصِبا
في أَنحُرٍ قَد زُيِّنَت بِتَرائِبِي
أَبدَينَ لي ما بَينَ طَرفٍ ساحِرٍ
ٍوَدَلالِ مَغنوجٍ وَشَكلٍ خالِب
ِوَحَديثِ سَحّارِ الحَديثِ كَأَنَّهُ
دُرٌّ تَحَدَّرَ مِن نِظامِ الثاقِبِ
-- وقد عارض القصيدة الشاعر البحتري في داليته المشهورة على البحر الكامل ذاته :
عَجَباً لِطَيفِ خَيالِكِ المُتَعَاهِدِ
وَلوَصْلِكِ المُتَقَارِبِ المُتَباعِدِ
يَدنُو، إذا بَعُدَ المَزَارُ، وَيَنتَوِي
في القُرْبِ، لَيسَ أخو الهوَى بمباعدِ
* أَأُعلِنُ ما بي أَم أُسِرُّ فَأَكتُمُ؟
وَكَيفَ وَفي وَجهي مِنَ الحُبِّ مَعلَمُ؟
أَثيبوا بِوُدٍّ أَو أَثيبوا بِهَجرَةٍ
وَلا تَقتُلوني إِنَّ قَتلي مُحَرَّمُ
طَفَوتُ عَلى بَحرِ الهَوى فَدَعَوتُكُم
دُعاءَ غَريقٍ ما لَهُ مُتَعَوَّمُ
لِتَستَنقِذوني أَو تُغيثوا بِرَحمَةٍ
فَلَم تَستَجيبوا لي وَلَم تَتَرَحَّموا
تَعَلَّقتُكُم مِن قَبلِ أَن أَعرِفَ الهَوى
فَلا تَقتُلونَني إِنَّني مُتَعَلِّمُ
تُخَبِّرُني الأَحلامُ أَنّي أَراكُمُ
فَوَيلي كَم مِنَ الأَباطِلِ أَحلُمُ
حَجَجتُ مَعَ العُشّاقِ في حَجَّةِ الهَوى
وَإِنّي لَفي أَثوابِ حُبِّكِ مُحرِمُ
يَقولونَ لي أَخفِ الهَوى لا تَبُح بِهِ
وَكَيفَ ؟ وَطَرفي بِالهَوى يَتَكَلَّمُ
أَأَظلِمُ قَلبي ؟ لَيسَ قَلبي بِظالِمٍ
وَلَكِنَّ مَن أَهوى يَجورُ وَيَظلِمُ
(شَكَوتُ إِلَيها حُبَّها فَتَبَسَّمَت
وَلَم أَرَ شَمساً قَبلَها تَتَبَسَّمُ)
فَقُلتُ لَها جودي فَأَبدَت تَجَهُّماً
لِتَقتُلَني يا حُسنَها إِذ تَجَهَّمُ
وَما أَنا في وَصلي لَها بِمُفَرِّطٍ
وَلَكِنَّني أَخشى الوُشاةَ فَأَصرِمُ
يُعاوِنُها قَلبي عَلى جَهالَةٍ
وَأُوشِكُ يُبلي حُبُّها ثُمَّ يَندَمُ
وَكُنتُ زَماناً أَجحَدُ الناسَ ذِكرَها
فَكَذَّبَني دَمعٌ مِنَ الوَجدِ يَسجُمُ
فَأَصبَحتُ كَذّاباً لِكِتمانِيَ الهَوى
وَصارَ إِلى الإِعلانِ ما كُنتُ أَكتُمُ
تَوَسَّطتُ بَحرَ الحُبِّ حينَ رَكِبتُهُ
فَغَرَّقَني آذِيُّهُ المُتَلَطِّمُ
فَوَاللَهِ ما أَدري وَإِنّي لَهائِمٌ
أَأَرجِعُ خَلفي فيهِ أَم أَتَقَدَّمُ ؟!
*تحمّلتُ هجرَ الشادن المتدلل
وعاصيتُ في حب الغوايةِ عذّلي (1)
وما أبقتِ الأيامُ مني و لا الصِّبا
سوى كبدٍ حرّى ، و قلب مقتّلِ
وكنت نديمَ الكأس حتى اذا طغت
تعوّضْت منها ريقَ أحورِ عطبَلِ (2)
نهانيَ عنها حبُّها أن أسوءَها
بلمسي فلم أهتِكْ .. و لم أتبتـّــل
(سقتني بعينيها الهوى و سقيتُها
فدبّ دبيبَ الراح في كل مفصلِ)
وممكورةٍ رودِ الشبابِ كأنها
قضيبٌ على دِعصٍ من الرمل أهيَــلِ (3)
سُعِدتُ بها و الليلُ يقظانُ قائمٌ
على قدم كالراهب المتبتـِّــــل
فلما استمرت من دجى الليل دولةٌ
و كاد عمودُ الليل بالصبح ينجلي
كررنا أحاديثَ الوداع ذميمةً
ليبلغَ كلٌ حاجةً غيرَ مُعجل
فلم نرَ الا عبرةً بعد زفرةٍ
مودعةً أو نظرة ًبتأمُّــــــــل
*المفردات :
1- الشادن : ولد الظبية .
2- عطبل : طويلة العنق ، و الجارية العطبول ، الجميلة و الفتية الممتلئة طويلة العنق .
3- ممكورة : يقال امراة ممكورة ، أي مستديرة الساقين . رَوْد الشباب : سريعة ،
و دعص : كوم من الرمل . و رمل أهيل ، أي منهال لا يثبت.
------------------------------
اخيرا ..هذه نبذة موجزة على ما كتب عن صنعته الشعرية وسيرته :
* مسلم بن الوليد الانصاري (208 - 140) هجرية ولد في الكوفة وانتقل الى البصرة وبغداد واختلفت المصادر في نسبته فقيل انه خزرجي من الانصار ، وقيل من مواليهم.. عاش في العصر العباسي الاول وادرك خلافة هارون الرشيد والمامون ، وولاه المامون بريد جرجان سنة 200 هجرية ، وتوفي فيها ، ومما يذكر (انه تزهد في آخر حياته ، وقد رثى زوجته التي عاش معها حياة هانئة مستقرة بحرارة وحرقة)
* درس وتعلم الكثير من معارف عصره ، وتلقى اللغة السليمة من البادية ، وقرأ كثير من الآداب المترجمة ، واتصل بمتكلمي البصرة وحذق على ايديهم فكان يطيل النظر والتفكير في تصحيح المعاني والنفاذ الى دقائقها ونكتها العميقة ، وكان على ثقافة واسعة بالشعر الجاهلي والاسلامي..
وكان معاصرا لكثير من الشعراء ، ومنهم ابي نواس وبشار بن برد وابي العتاهية ودعبل الخزاعي والعباس بن الاحنف وابن الضحاك ووالبة بن الحباب ، وكان معاصرا كذلك لعلماء اللغة والنحو كالخليل بن احمد الفراهيدي وسيبويه والكسائي وابي عمر بن العلاء وخلف الاحمر والاصمعي
* يعتبر جمال الشعر المطبوع مقياسا اساسيا لموهبة وابداع الشاعر ، الا ان مسلم بن الوليد يرى ان اهتمام الشاعر يجب ان ينصب اولا بالصنعة الشعرية من حيث الصياغة والصور وموسيق الشعر ، وان كانت تعدّ بالاساس مكملة لملكة الشاعر وموهبته الاساسية..
ومما يذكر عن شاعريته انه :
(لم يعرف القرن الثاني للهجرة شاعرا اجهد نفسه في صنع الشعر كما فعل مسلم بن الوليد ، حيث تعايش في نفسه الشعر القديم والجديد في عصره ، فتميز شعره بقوة الاحكام ومتانة السبك وشدة الاسر وروعة الحبك ، والميل الى توظيف محسنات البديع في شعره واستنباط المعاني النادرة والاخيلة المبتكرة فكان صاحب مذهب البديع بأمتياز في باب الغزل والمديح والهجاء..وكان شعره يمتاز بجزالة الاسلوب ومتانته )
ويذكر ان ما جعل ديوانه صغيرا بالقياس الى معارضيه هو انه :
(يعتبر الشعر صناعة مجهدة تتطلب التمهل والصقل فلا ينظم الشعر ارتجالا دون النظر الى رصانة الاسلوب وحبكته )
*وهكذا كانت الصنعة الشعرية عند مسلم بن الوليد ابلغ من الطبع ، ومن اجمل ماقيل عنه بهذا الصدد :
(ان ريادته لمذهب التصنيع لا تعني الاسبقية بل الابتكار والتفوق والتميز على من عاصره من شعراء البديع فقد اجاد في التصوير الفني وفي تقديم المعنى واضحا ، وكان اصيل النهج يراوح فيه بين القديم والحديث )
وقد تبعه في مذهب البديع الكثير من الشعراء ومضوا على نهجه ومنهم دعبل الخزاعي وابي تمام الطائي وابن المعتز..
وقد وصفه ابن قتيبة فقال :
(انه كان مداحا محسنا واول من لطف المعاني ورقق في القول)
وقد مدح في شعره الرشيد والبرامكة والفضل بن سهل ويزيد بن مزيد الشيباني ومنصور بن يزيد الحميري خال الرشيد ، كما نظم اجمل اشعار الغزل بالطف المعاني والالفاظ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق