رحلة قصيرة في شعر وسيرة الشاعر الرائد الكبير عبد الوهاب البياتي.. في ذكرى رحيله
الى من يهمه التراث الثقافي..
في مثل هذا اليوم (الثالث من آب) رحل الى بارئه الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي احد رواد الشعر الحديث في العراق والذي ولد في بغداد عام 1926 ، وشيد مع زملائه بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وشاذل طاقة وبلند الحيدري اساس البناء لتجربة الشعر الحر (شعر التفعيلة) وكانت ريادتهم في ذلك على مستوى الوطن العربي لتتكامل مع مدرسة شعر التفعيلة المصرية والشامية ومن اعلامها صلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل وفدوى طوقان ومحمد عفيفي مطر وملك عبد العزيز..
والشاعر عبد الوهاب البياتي هو -بحق- محل فخر للعراق وتراثه الادبي الحديث..
وقد كتبت دراساتك كثيرة وكتب نقدية واكاديمية في شعره على مستوى الشكل والمضمون ، فاذا كان القارئ يهتم بالقصيدة الرومانسية او يبحث في الشعر الغنائي او يهتم بالمدرسة الرمزية والعلاقة بين الاسطورة والشعر ، وبين الصوفية والشعر ، او من يهتم بموضوع شعر الغربة والاغتراب والوطن او يبحث في الادب المقارن عن اثر الشعر الاوروبي الحديث في تجربة الشعر الحر عند الرواد وكذلك من يبحث موضوعيا عن تأثير وايماءات المنظومة الفكرية والثقافية للشاعر الحديث في ادبه ، من يبحث في كل ذلك سيجد عند الشاعر عبد الوهاب البياتي ضالته..
ولتوضيح الفكرة اعددت بايجاز هذه المقولات النقدية لاربعة كتاب تختزل حداثة شعر البياتي :
*(إن أي رحلة أو قراءة لشعر البياتي رحلة خصبة ومثيرة و غنية ذلك إن قصائد البياتي تحمل في تدفقها المستمر جوهر الشعر الحقيقي وتؤكده وتحمل قدرة النفاذ من خلال الموسيقى والصورة والرؤيا إلى الوجدان ، وجدان الانسان المعاصر..)
*(البياتي كان مسكوناً بهاجس التاريخ وأزمة المادية الجدلية وديالكتيك الفكر وعمق التراث وقضايا الوجود والحرية، إمتزجت في كيانه وأشعاره إشراقات الصوفية والرمزية إلي جانب الأسطورة والثقافة المعرفية)
*(والواقع إن البياتي لا يتحرك في مدار الصوفي والوجودي وحسب ، وإنما يتخطى ذلك ليستوعب المكونات السوريالية ويوظفها توظيفاً خلاقاً في الجمع بين الصوفي والسوريالي تأصيلاً للمنحى المعرفي الحداثي دون إسقاط القديم على الحديث، او تشويه الحديث بالقديم ، فالشاعر البياتي يعد -وبلا منازع- من بين الشعراء المؤسسين لحداثتنا الشعرية)
*وفي ضوء ذلك التوظيف الخلاق :
(تقارن ريتا عوض ، وهي ناقدة فلسطينية مقيمة في تونس ، بين البياتي والمتصوف ابن عربي ، فترى إن لقاء البياتي بابن عربي كان لقاء بين عالمين يختلف احدهما عن الآخر اختلافاً جوهرياً ، وبين رؤيتين مغايرتين للعالم والوجود.. لكن البياتي استطاع أن يحقق المصالحة بين العالمين وبين الرؤيتين بمقدرة على الانتقاء والاستيعاب، وعلى التمثل والخلق من جديد..)
ولست هنا في صفحة على الفيس بوك بصدد دراسة لجانب من تجربته الشعرية الغنية لكني سأعرض بمناسبة ذكرى رحيله مختارات من شعره ونبذة موجزة عن سيرته واعماله :
------------------------------------------------------
1-- من قصيدة (سارق النار) :
داروا مع الشمس فانهارت عزائمهم
وعاد أولهم ينعي على الثاني
وسارق النارِ لم يبرح كعادته
يسابق الريح من حان إلى حانِ
ولم تزل لعنةُ الآباء تتبعه
وتحجب الأرض عن مصباحه القاني
ولم تزل في السجون السود رائحةٌ
وفي الملاجئ من تاريخه الفاني
مشاعل كلما الطاغوت أطفأها
عادت تضيء على أشلاء إنسان
عصر البطولات قد ولى وها أنذا
أعود من عالم الموتى بخذلان
وحدي احترقت، أنا وحدي! وكم عبرت
بي الشموس ولم تحفل بأحزاني
إني غفرت لهم إني رثيت لهم !
إني تركت لهم يا رب أكفاني !
فلتلعب الصدفة العيماء لعبتها
فقد بصقت على قيدي وسجاني
وما علي إذا عادوا بخيبتهم
وعاد أولهم ينعى على الثاني
القطعة تقص حكاية المنافقين الذين يعيشيون بلا ثوابت ولاقدرات..
اذ اراد البياتي هنا ان يفضح وعاظ السلاطين والمنافقين من الساسة والادباء والمثقفين الذي تبهرهم الاضواء ولايغمر قلوبهم النور ، والذين يغيرون جلودهم ولسانهم طبقا لمصالحهم وفيئهم كعباد الشمس الذين يدورن مع الشمس حيثما دارت..
*********************
2-- من قطعة (الموت في غرناطة)
أرضٌ تدور في الفراغ ودم ٌ يُراقْ
وَيحْي على العراق
تحت سماء صيفه الحمراء
من قبل ألفِ سنةٍ يرتفع البكاء
حزنًا على شهيد كربلاء
ولم يزل على الفرات دمه المُراق
يصبغ وجهَ الماء والنخيل في المساء
آه جناحي كسرته الريح
من قاع نهر الموت, يا مليكتي, أصيح
من ظلمة الضريح
أمدُّ للنهر يدي, فَتُمسك السراب
يدي على التراب
يا عالمًا يحكمه الذئاب
ها أنذا محاصرٌ مهجور
نأتي ونمضي حاملين الفقر للقبور
ها أنذا أموت
في ظلمة التابوت
يأكل لحمي ثعلب المقابر
تطعنني الخناجر
من بلد لبلد مهاجر
على جناح طائر
- أيتها العذراء
والنور والتراب والهواء
وقطرات الماء
ها أنذا انتهيت
مقدّسٌ, باسمك, هذا الموت
*********************
3-- من قمري الحزين/ الى ولدي علي
البحر مات..
وغيبت امواجه السوداء قلع السندباد
ولم يَعُد ابناؤه يتصايحون مع النوارس
والصدى المبحوح عاد
والأفقُ كَفّنَه الرماد
فلمن تغني الساحرات
والعشبُ فوقَ جبينه يطفو
وتطفو دنيوات
غرِقت جزيرتنا وما عاد الغناء الا بكاء
والقُبراتُ طارت..
فيا قمري الحزين
الكنزُ في المجرى دفين..
في آخر البستان ، تحت شجيرة الليمون
خبأه هناك السندباد
لكنهُ خاوٍ..
وها ان الثلجَ والاوراق تطْمُرُهُ
وتظْمُرُ بالضباب الكائنات
أكذا نموت بهذه الأرض الخراب ؟
ويجفّ قنديلُ الطفولةِ في التراب ؟
أهكذا شمس النهار
تخبو وليس بموقد الفقراءِ نار ؟
مُدنٌ بلا فجرٍ تنامْ
ناديتُ باسمكَ في شوارعِها
فجاوبني الظلام
وسألتُ عنكَ الريحَ
وهي تَئِنّ في قلبِ السكون
ورأيتُ وجهَكَ في المرايا والعيون
وفي زجاجِ نوافذِ الفجرِ البعيدْ
وفي بطاقاتِ البريدْ
مُدُنٌ بلا فجرٍ يُغطّيها الجليد
هجرتْ كنائسَهَا عصافيرُ الربيعْ
فَلِمَنْ تُغَنِّي ؟ والمقاهي أوصدتْ أبوابَهَا
وَلِمَنْ تُصَلِّي ؟ أيها القلبُ الصَّدِيع
والليلُ ماتْ
والمركبات
عادتْ بلا خيلٍ يُغَطِّيهَا الصَّقِيع
وسائقوها ميتون
أهكذا تمضي السنون ؟
ويمزق القلب العذاب
ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ
نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ
فُقَرَاء ، يا قَمَرِي ، نَمُوت
وقطارُنا أبداً يَفُوت
*******************
4-- بغداد يا مدينة النجوم
والشمس والأطفال والكروم
والخوف والهموم
متى أرى سماءك الزرقاء
تنبض باللهفة والحنين
متى أرى دجلة في الخريف
ملتهبا حزين
تهجره الطيور
وأنت يا مدينة النخيل والبكاء
ساقية خضراء
تدور في حديقة الأصيل
متى أرى شعرك ِ الطويل؟
تغسلهُ الإمطار
في عتمةِ النهارِ
واعين الصغار
تشرق بالطيبة والصفاء.
……………………
أيها الحرف
الذي علمني جوب البحار
سندبادي مات مقتولا على مركب نار
وطني المنفى
أيها الحرف المدمى
يا محض شعار
إنني احمل بغداد معي من دار لدار.
وجه امي والصغار
آه من عري القفار
آه لو عدت الى بيتي
لمزقت مكاتيبي وأوراق الغبار
ولعلمت الصغار
كيف أبحرنا على مركب نار
*********************
5-- من قطعة ( العرب اللاجئون)
من يشتري ؟ - الله يرحمكم
ويرحم أجمعين
آباءكم ، يا محسنون
اللاجئَ العربي والانسان والحرف المبين
برغيف خبزٍ
إن أعراقي تجف وتضحكون
السندباد أنا
كنوزي في قلوب صغاركم
السندباد بزي شحاذٍ حزين
اللاجئُ العربي شحاذ على أبوابكم
عارٍ طعين
النمل يأكل لحمه ،
وطيور جارحة السنين
من يشتري ؟ يا محسنون !
"الآخرون هم الجحيم"
"الآخرون هم الجحيم"
العار للجبناءِ ،
للمتفرجينْ
العار للخطباء من شرفاتهم ،
للزاعمين ...
للخادعين شعوبهم
للبائعين
فكلوا ، فهذا آخر الأعياد ، لحمي
واشربوا ، يا خائنون !
*********************
6- من (مذكرات رجل مجهول)
أنا عامل , ادعى سعيد
من الجنوب
أبواي ماتا في طريقهما الى قبر الحسين
وكان عمري آنذاك
سنتين - ما اقسى الحياة
وأبشع الليل الطويل
والموت في الريف العراقي الحزين -
وكان جدي لا يزال
كالكوكب الخاوي , على قيد الحياة ..
...…………...…..
الليل في بغداد , و الدم و الظلال
ابداً , تطاردني كأني لا ازال
ظمآن عبر مقابر الريف البعيد
وكان انسان الغد الآتي السعيد
انسان عالمنا الجديد
مولاي ! يولد في المصانع و الحقول
**********************
6-- من (مسافر بلا حقائب)
الضوء يصدمني، وضوضاء المدينة من بعيد
نَفْسُ الحياة يعيد رصف طريقها، سأم جديد
أقوى من الموت العنيد
سأم جديد
وأسير لا ألوي على شيء، وآلاف السنين
لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين
وحل وطين
وعيون آلاف الجنادب والسنين
وتلوح أسوار المدينة، أي نفع أرتجيه؟
من عالم ما زال والأمس الكريه
يحيا، وليس يقول: "إيه"
يحيا على جيف معطرة الجباه
نفس الحياة يعيد رصف طريقها، سأم جديد
أقوى من الموت العنيد
تحت السماء
بلا رجاء
في داخلي نفسي تموت
كالعنكبوت
نفسي تموت
وعلى الجدار
ضوء النهار
يمتص أعوامي، ويبصقها دما، ضوء النهار
أبداً لأجلي، لم يكن هذا النهار
سأكون! لا جدوى، سأبقى دائماً من لا مكان
لا وجه، لا تاريخ لي، لا مكان
---------------------------------------------------------------
نبذة موجزة من سيرة الشاعر عبد الوهاب البياتي وغربته :
* ولد الشاعر عبد الوهاب البياتي في بغداد عام 1926، وتخرج في كلية الآداب/قسم اللغة العربية عام 1950..
عمل مدرسا وصحفيا اربعة سنوات من عام 1950 الى عام 1954 ، لكنه فصل من الوظيفة بسبب معارضته ومواقفه الوطنية.
* سافر على اثر ذلك الى سوريا ومصر وعاد للعراق بعد ثورة 14 تموز..
*سافر الى الاتحاد السوفييتي ضمن الاعوام (1963- 1959) اذ عمل استاذا في جامعة موسكو وباحثا علميا في معهد شعوب آسيا
* اسقطت عنه الجنسية بعد انقلاب البعث في 8 شباط عام 1963 واغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم ، فهاجر الى القاهرة واقام فيها حتى عام 1970
* انتقل الى اسبانيا وعاش فيها عشرة سنوات (1980 - 1970) وكانت هذه المدة بالغة الاثر في تجربة البياتي الادبية والفكرية، ونالت شخصيته شهرة واسعة في الاوساط الثقافية الاسبانية حتى ترجمت جميع دواوينه الشعرية الى اللغة الاسبانية
* انتقل الى العاصمة الاردنية عمان بعد حرب الخليج الاولى عام 1991 وشارك في عدد من المؤتمرات الثقافية.
واقام اخيرا في سوريا من عام 1991 الى يوم وفاته في 1999/8/3 .
والتقى هناك عديدا من الادباء والكتاب العراقيين ، وصحب شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري الذي توفي عام 1997 قبل سنتين من وفاته..
--------------------------------------------------------------
اعمال الشاعر عبد الوهاب البياتي
ديوان ملائكة وشياطين 1950م.
أباريق مهشمة 1955م.
المجد للأطفال والزيتون 1956م
رسالة إلى ناظم حكمت 1956م.
أشعار في المنفى 1957م.
عشرون قصيدة من برلين 1959م.
كلمات لا تموت 1960م.
طريق الحرية (بالروسية) 1962م.
سفر الفقر والثورة.
النار والكلمات 1964.
الذي يأتي ولا يأتي 1966م.
الموت في الحياة 1968م.
تجربتي الشعرية 1968م.
عيون الكلاب الميتة 1969م.
بكائية إلى شمس حزيران والمرتزقة 1969م.
الكتابة على الطين 1970م.
يوميات سياسي محترف 1970م.
وقد صدر له ديوان عبد الوهاب البياتي الذي ضم دواوينه المذكورة في 3 أجزاء نشْر دار العودة ببيروت 1972م
قصائد حب على بوابات العالم السبع 1971م
سيرة ذاتية لسارق النار 1974م.
كتاب البحر 1975م.
قمر شيراز 1975م.
صوت السنوات الضوئية 1979م.
بستان عائشة 1989م.
كتاب المراثي 1995
الحريق 1996
خمسون قصيدة حب 1997
البحر بعيد أسمعه يتنهد 1998
ينابيع الشمس - السيرة الشعرية 1999
ومن أعماله الإبداعية الأخرى مسرحية محاكمة في نيسابور 1973م. ومن مؤلفاته بول اليوار، وأراجون، وتجربتي الشعرية ومدن ورجال ومتاهات..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق