رواية الرجع البعيد/قصة عهد الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم واستشهاده.. م.صلاح المالكي

ونحن نتذكر ماجرى في فجر ذلك اليوم الدموي (8 شباط/فبراير عام 1963) من انقلاب عسكري واحداث قاسية اطاحت بالجمهورية الاولى وقائدها الزعيم الوطني (عبد الكريم قاسم) ..
فان رواية الرجع البعيد للقاص العراقي الكبير فؤاد التكرلي -رحمه الله- هي اول واغنى رواية عراقية متعددة الاصوات قصت -بعمق- احوال وشجون العائلة العراقية واشكالياتها ووضع المرأة والمجتمع العراقي قبيل ذلك الانقلاب الاسود وبعده ، وتكشف بعين الروائي الراصد غلظة الانقلابيين والانهيار السياسي حيث تتناول في حبكتها تلك الحقبة المهمة في تأريخ العراق السياسي التي توجت بانقلاب البعثيين في (الثامن من شباط) واعدام زعيم الشعب عبد الكريم قاسم بلا محاكمة وظهور الحرس القومي كتشكيل بوليسي ارهابي حاكم..
لذا فأن الرواية تستحق القراءة من كل مهتم بالثقافة العامة والتأريخ السياسي للعراق ناهيك عن المتخصص في الادب والنقد الادبي..
وينبغي في البداية معرفة ان كاتب الرواية المرحوم فؤاد التكرلي( 2008-1927) كان يعمل في سلك القضاء وتدرج في المناصب حتى اصبح نائب رئيس محكمة استئناف بغداد عام 1966 الى ان تقاعد عام 1980 وسافر خارج العراق وقد افادته طبيعة مهنته كقاضي مع ثقافته الادبية وحسن بصيرته في رصد مشكلات الفرد والاسرة والمجتمع العراقي ، وان الحديث عنه وعن اعماله القصصية وتكريمه يطول ، لكنه باختصار يعد من كبار ادباء جيل الخمسينيات (جيل عبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان وذو النون ايوب..) ، ومن المناسب ان نذكر اهم الاعمال الادبية للقاص الكبير الراحل فؤاد التكرلي ، منها : الوجه الآخر ، المسرات والاوجاع ، اللاسؤال واللاجواب، موعد النار ،  خاتم الرمل ، الطريق الى المدينة ، القنديل المنطفىء...  
امّا رواية الرجع البعيد فقد كتبها التكرلي عام 1966 في باريس واتمها في بغداد عام 1977 لكنها لم تنشر الا بعد تقاعده عام 1980في بيروت ، وقد استغرقت هذه المدة الطويلة بسبب الوضع السياسي القسري في العراق ، وقد ترجمت الرواية الى اللغتين الفرنسية والروسية وحظيت بدراسة النقاد الاجانب لتميز الرواية في بنائها الفني ونجاح الروائي في استخدام اسلوب الاصوات السردية المتعددة والتي تنير الضوء في مضمونها العام على الوضع الاجتماعي في حقبة ملتهبة في تأريخ العراق الحديث.. اما ثيمة الرواية بمعناها الدال على (الهمّ العام المهيمن على النص او مجموعة الافكار المركزبة التي يكشف عنها السرد) هي الفقر والحزن المخيم على حياة الناس ، قضايا ومشاعر المرأة الصابرة المضطهدة ، صراع الايديولوجيات السياسية وضبابية الفكر الثقافي السائد وفساد الانقلابيين.. 
 ومن الجدير بالذكر الاشارة الى ان الكتابة عن رواية الرجع البعيد شكلا ومضمونا يتعدى حدود صفحة في الفيسبوك لانها تتطلب مقالا طويلا او كتابا مستقلا ، لكني سأعرض بمناسبة ذكرى الانقلاب دراسة اعددتها في محتوى الرواية وشكلها الفني ، وان اعداد الدراسة تلك ليست الا قراءة لقارئ متذوق يهتم بالادب والثقافة العامة قرأ الرواية ومانشر عنها.. 
1- تدور احداث الرواية في بيت عتيق في باب الشيخ بوسط العاصمة بغداد يرمز الى طبيعة بيئة الاسرة العراقية البغدادية السائدة آنذاك ، واختار الروائي محلة باب الشيخ والحواري المحيطة مسرحا للاحداث وعدّها صورة لبغداد والبلد في ذلك اليوم فهي قريبة من مركز القرار وصراع الارادات واحداث الانقلاب ويقطنها الناس البسطاء الذين يمثلون عامة الشعب.. 

2- تصور حبكة الرواية بدقة وقدرة فنية عالية
  واقع العراق السياسي والاجتماعي -عبر تنامي الحدث وحركة الشخصيات فيها- وكانك ترى لوحة معبرة ترسمها الكلمات بدل الزيت والريشة او فيلما  بأخراج واقعي ورائع يحكي مأساة الفرد والاسرة والمرأة العراقية بألتقاطها - كما يقول د. فيصل الدراج- (صوت التأريخ المحتجب في العلاقات اليومية ورسمها ابعاد التراجيديا الكاملة عبر اللقاء الفاجع بين الوعي الفردي والجماعي والتاريخ)..
ولايضاح ذلك بشيء من اختصار يفي -قدر الامكان -بحبكة هذه الرواية الكبيرة المتعددة الاصوات :
* يتطلب ان نعرف-اولا- ان الشخصية المحورية في الرواية هي المعلمة الجميلة المتعففة (منيرة) والحقوقي الموظف ابن خالتها (مدحت) الذي وقع في غرامها وتزوجها فيما بعد حيث سكنت مع امها عندهم في باب الشيخ ، وكانت الشابة المثقفة منيرة قد هاجرت مع امها من بعقوبة الى باب الشيخ في بغداد لتسكن في بيت خالتها (نورية) زوجة (الحاج عبد الرزاق اسماعيل) والد مدحت ، ذلك لأنها تعرضت للاغتصاب من (عدنان) احد اعضاء الحرس القومي البعثي وهو ابن اختها (مليحة) في بستان ابيه التاجر حيث كانت تسكن حينها في بعقوبة وبمشهد حيواني دنئ ومؤلم ، وعدنان هذا شاب عنيف ودموي الطباع وازدادت شراسته عند انتمائه الى حزب البعث الذي لم يرعى الله في حرمة الاعتداء على خالته المتعلمة البريئة ، وفرضت منيرة -بعد ذلك الاعتداء- العزلة على نفسها عند انتقالها الى بيت خالتها في بغداد لأنها ارادت ان تبقي  الموضوع سرا وتستمر حياتها في عزوف عن الزواج بسبب الموقف الاجتماعي الحرج لفقدها عذريتها وماتعانيه من جرح نفسي قاس يرافق ايامها ويسلب ارادتها في الحياة..
*  تعرضت المعلمة الشابة منيرة لضغوط كبيرة اثناء اقامتها الجديدة في بغداد للموافقة على رغبة ابن خالتها مدحت في الاقتران بها ، وقد طلب يدها بواسطة اخته (مديحة) وكان ردّ منيرة بالرفض والوقوف بالضد من طموح مدحت للزواج منها ، لكن عمة مدحت (صفية) قد حسمت الامر بتدخلها الحسن وحديثها بضرورة الزواج مع توفر شروطه (لسدّ افواه الناس الذي يتكلمون بالظن ولايخافون الله) وهم يرون مدحت يرافق ابنة خالته وهي تسكن عندهم بأقامة دائمة ، ويحصل الزواج..
لكن في ليلة الدخلة يكتشف مدحت عدم عذرية عروسه التي احبها فيصاب بالصدمة ويهجر البيت هاربا دون ان يتكلم ليعيش صراعا داخليا مضنيا بين حبه لمنيرة وحسن اخلاقها وثقافتها وبين ماتعنيه عدم عذرية الفتاة من دلالة ، وما الذي يجب عليه فعله في ضبابية واقع لايدركه..
 * يحاول اخو مدحت (عبد الكريم) البحث عن اخيه الهارب ، وعبد الكريم هذا طالب جامعي يعاني صدمة نفسية نتيجة تأثره بموت صديقه (فؤاد) المباغت امام عينيه فيعيش بحال من اكتئاب وخوف ونوبات انفعال وكان هو الاخر يحب منيرة لكنه انسحب امام رغبة وسبق اخيه الاكبر في الزواج منها وطلب يدها..
 وفي رحلة بحث عبد الكريم عن اخيه مدحت يلتقي زوج اخته مديحه ذلك المتشرد الفوضوي (حسين) الذي هجر زوجته وابنتيه الصغيرتين (سناء وسها) لتعيش مع اهلها ليحدثه بأمر اخيه مدحت طالبا معونته ، اما عدنان الضال والبعثي الشرس فلم يصحو ضميره اذ كان يحاول مطاردة خالته منيرة في بغداد لكنها طردته وصدّته بقوة..  
 * يتطوع حسين للبحث عن مدحت ، وكان حسين هذا قد سافر قبل سنتين للعمل في الكويت قبل ان يطالب بضمها الزعيم عبد الكريم قاسم ثم عاد مفلسا خائبا فهجر زوجته وعاش سكيرا ومثقفا متشردا..
يلتقي حسين بمدحت في ديوان الوزارة حيث يعمل وينقل خبره الى الاهل ويحاول حسين بذات الوقت ان يحسن سيرته مع زوجته مديحة ، ومن ثم تتواصل اللقاءات بين حسين ومدحت حيث كانا يلتقيان في مشرب (اوانيس) بالباب الشرقي ،بعدها يلجأ مدحت للسكن مع حسين في غرفته الوسخة المستأجرة عند بيت العجوز (عطية) في حي الاكراد..
* يهرع حسين -ذات يوم- لأخبار اهل مدحت بمكانه فيسارعون لتفقد احوال ابنهم والاطمئنان عليه ، وتستغل منيرة الفرصة فتبعث رسالة بيد الصغيرة سناء الى ابيها حسين ليقوم -بدوره- بأيصالها الى مدحت فيدرك بعدها ان حبه لمنيرة وعفتها التي خبرها واطمأن لها اكبر من اي شيء آخر فيقرر العودة الى زوجته الحبيبة ، اما حسين فيسقط مريضا بعد تحسن حالة مدحت الصحية والنفسية ، فتقرر زوجته مديحة الصفح عنه وتوافق ان تعيد بصحبته الحياة المشتركة ودفء العائلة بطيبة قلب امّ وزوجة صالحة صابرة..
* وفي طريق عودة مدحت الى بيت اهله وهو في شوق الغريب الى دياره وزوجته منيرة يحدث انقلاب الثامن من شباط الاسود وكانت الطائرات والمدافع تدك الارض فيُقتَل برصاصة طائشة في حي الاكراد وهو احد ميادين الصراع المسلح ، ويشاء القدر ان يتعرف عدنان وهو من الحرس القومي على جثة مدحت فيأخذه الى بيت اهله قتيلا مضرجا بدمائه.. ليصور الروائي سوء القدر وانهيار القيم بان يكون عدنان الضال المنحرف منتصرا تحت خيمة الحرس القومي وهو من يقود جثة مدحت ذا الخلق الطيب والنية الحسنة قتيلا الى اهله وزوجته منيرة المنكوبة بعفتها بسبب عدنان نفسه ويكون موت زوجها وترملها المبكر على اثر انقلاب حزبه (البعث) ورجال حرسه الاشرار..

3- الشخصية في الرجع البعيد :
في ظل احداث الرواية اعلاه ، فاننا يمكن ان نحدد محاور شخوص الرواية ودورها في الاحداث :
* الشخصيات الرئيسية في الرواية : هي المعلمة الشابة منيرة والحقوقي مدحت ، وتمثل منيرة صورة واضحة للمرأة العراقية المتعلمة والمستلبة الارادة اما الحقوقي مدحت فهو من جهة ممثل لشخصية المؤيدين للزعيم عبد الكريم قاسم ومن جهة أخرى صورة لشخصية الموظف الرتيب الذي يعيش بلا تطلعات ويتوافق مع النظام الحاكم مادام يشبع حاجاته الاساسية..
* واعتقد ان شخصية الفوضوي حسين ليست شخصية عادية ومسطحة كما يشير بعض النقاد بل احسبه من الشخصيات الساندة كشخصية عبد الكريم (اخو مدحت) بل ان شخصية حسين وعائلته اكثر فاعلية و دلالة واقعية عن تلك الحقبة ، فضلا عن ان الطالب عبد الكريم نموذج لشخصية غير فاعلة في المجتمع ومحكومة بالخيبة والتردد والخوف من واقع الحياة وصورة لفشل المؤسسة التربوية.. 
 اما شخصية حسين فعلى الرغم من انه يجسد واقع المتشرد اللامنتمي والفاشل السكير الذي هجر عائلته وتخلى عن واجبه الاسري فأنه صورة مطابقة لواقع الافراد الذين جردّهم الفقر والفشل في طلب الرزق من عواطفهم في الاتصال البناء بالحياة والاسرة ليكون صورة للمتسكعين المصابين (بوهم الثقافة و ضبابية الفكر ) كمعادل موضوعي للفشل في الحياة ، كما انه واسرته المتكونة من زوجته الصالحة مديحة وابنتيه الصغيرتين (سناء وسها) نموذج للعائلة العراقية التي تعاني العوز والفاقة في ذلك الوقت والتي تتحمل فيها الأم التي تمثلها (مديحة) الدور الاكبر في التربية والصبر على ضنك العيش ، بالاضافة ان لشخصية حسين وطفلته سناء حظا وافرا في التأثير بأحداث الرواية وشخصياتها المحورية..
* في ضوء ذلك فانه يمكن ان تكون :
الشخصيات الساندة  او الشخصيات (المصاحبة للشخصيات الاساسية) هي :
 شخصية الطالب عبد الكريم وشخصية المتشرد حسين مع طفلته سناء وزوجته مديحة التي مثلت بأمتياز (صورة الزوجة الطيبة القانعة) التي تحملت مع زوجها كل متاعب الحياة وادت دورا فاضلا في الايثار والتربية مع الصفح عن الزوج اذا ماعاد لبيته ابا راعيا يحرص على اسرته ويتخلى عن انانيته ونزعاته الفردية ، امّا الطفلة سناء فهي صورة ممثلة لضحايا المجتمع ومستقبله المبهم ، على حين تمثل شخصية عدنان المنتمي للحرس القومي والطائش المنحرف الفاشل دراسيا صورة لذلك المستقبل القادم الذي يُبنى على الجماجم والدم بفقه البعثيين الانقلابيين.. 
* الشخصيات الثانوية : هي الشخصيات الآخرى في محلة الكيلاني ببغداد والتي تعيش في بيت الحاج عبد الرزاق (زوج خالة المعلمة منيرة - الشخصية الاساسية -)
- تجسد ام مدحت ( خالة منيرة) صورة المرأة العراقية البسيطة والطيبة التي تتفانى في تلبية متطلبات البيت والعائلة وتجد سعادتها في ان ترى كل شيء يسير في سلام وعافية..
- وتعطي شخصية عمة مدحت وجدته صورة من طبيعة الارث الاجتماعي (للملكية العراقية)
- هناك اشارة اجتماعية عامة وضعها القاص خارج بيت الكيلاني هي صورة للبغاء الذي يرافق الفقر والوضع الاجتماعي-السياسي البائس جسدته (ماري) خليلة فؤاد الذي تربطه وعبد الكريم (اخو مدحت) صداقة مميزة.

4- في موضوعة المكان والزمان في الرجع البعيد:
اختار التكرلي -كما اشرنا سابقا- محلة باب الشيخ والحواري المحيطة بها مسرحا للاحداث لكونها قريبة من مركز القرار وحدث الانقلاب وصراع الارادات من جهة وصورة مصغرة للعاصمة بغداد في جزئيتها وصورة للعراق برمته في كليتها حيث يقطنها البسطاء والمثقفون من عامة الناس..  واختار بيتا عتيقا في تلك المحلة بوسط بغداد تدور فيه وتنطلق منه اهم احداث الرواية مجسدة بحركة شخوصه وعلاقاتهم ، وهو صورة ترمز الى بيئة وطبيعة الاسرة العراقية البغدادية وهموم الفرد ،وهو بالتالي يحمل دلالة رمزية للوطن العراق..

* نقرأ في السرد الذي يحتل فيه وصف المكان بامعان وتفصيل حيزا ثرّا يبلغ درجة التكافوء مع احداث الرواية عبر حركة الاشخاص وتداعياتها وحواراتها المطّردة مع زمن القص المتنامي.. 

 (المجاز الضيق المليء بالدبيب وصورة الابواب التي تصر صريرا عاليا حين تفتح ، والحوش  والاريكات والاسرة القديمة  وغرفة العجائز الثرثارات الجائعات على الدوام..) ، فالوصف دقيق التفصيل الى الحد الذي يجعلك تتصور المكان حيا او مرسوما بلوحة تشكيلية او فوتوغرافية دقيقة حتى عدّها البعض من الروايات المكانية او الشيئية..
 كما ان المكان يحمل دلالة رمزية فبيت الحاج عبد الرزاق في الكيلاني هو رمز لبغداد ولشجون العائلة العراقية وبيت (عطية) هو امتداد لبيت الكيلاني اما الخرابة فتحمل دلالة البؤس في ذاكرة بغداد..
* جسد التكرلي في الرواية الزمن بابعاده الثلاث وهي اشارة رائعة من احد النقاد ، حيث تمثل (ام مدحت) في الرواية الماضي المطمئن القدري..
كما يمثل المتشرد حسين بشخصية الصعلوك الحاضر القلق المتعب ، وتمثل شراسة عدنان وانحرافه صورة الحاضر الحاكم او السائد ، على حين ترسم الطفلة (سناء) المستقبل الغامض وراء الاحدات الدموية للانقلاب وتفكك العائلة..
5- تنوع السرد القصصي وملاحظات فنية :
أ- لقد عمد التكرلي الى استخدام اسلوب السرد المتنوع المعروف ب (البوليفونية) وهو الاسلوب الذي يستوعب التغييرات الاجتماعية ووضع المرأة ، ولعل رواية الرجع البعيد التي كتبت في الستينيات هي اول رواية عراقية تجسد هذا النوع من السرد في فصول الرواية الثلاثة عشر حيث يتناوب السارد في الفصول فيكون هو الراوي (سردية الشخص الاول) في فصل ما ويكون هو (الشخص الثالث العالم بالاشياء) في فصل آخر ، كما استخدم الروائي ضمير المتكلم (للتعرف على نوازع الابطال الداخلية)
ويتشكل السرد بلغة انا-الراوي (سردية الشخص الاول) في الرجع البعيد برواية احد شخوص الرواية في كل فصل ولو انه قد يكون في اعمال آخرى (الانا الثانية) للروائي كما يقول د.محمد عزام ، ويلحظ القارئ في هذا السرد  كيف تتداعى افكار الشخصيات لتكشف مواقفا فردية نفسية او اجتماعية برؤية ومشاهد معينة تثير القارئ وتجعله متفاعلا حيث تحرك مشاعره وافكاره في التفاعل مع الاراء المستقلة للشخصيات في الفصول المروية من منظورها دون ان نلمس موقفا مباشرا للمؤلف ، فالفصل التاسع مثلا برواية شخصية المعلمة (منيرة) والفصل السابع والثالث عشر مثلا برواية (عبد الكربم) والفصول الثلاثة الاخيرة تروى من منظور (مدحت) كما تروى في مواضع منها بسردية الشخص الثالث الغائب..
كما يلحظ ان سردية الشخص الغائب العليم قد وظّفه الروائي بطريقة متقنة حيث يحصل التحول اليه من سرد الراوي في (اللحظات الحاسمة بأحداث الرواية) دون ان نلمس تدخل الروائي بشكل واضح كما في الفصل التاسع الذي يظل مرئيا من خلال منظور المعلمة منيرة وليس من السارد الغائب..
ومن الجدير بالذكر الاشارة -هنا- الى الرؤية النقدية الصائبة التي تنص على (ان التصادم بالافكار والمنظور في الرؤية المتعددة الاصوات يتسلسل تأريخيا من قبل المؤلف دون ان يتم حله) ، وان (السرد بلغة الراوي او الشخص الغائب العليم لايستطيع ان يؤثر في سياق الاحداث التي تفرضها الوقائع) ، وهذا جلي الى حد كبير في رواية الرجع البعيد..
ولعل الاسباب الثلاث ادناه - في نظري- هي التي جعلت التكرلي يستخدم بذكاء السرد المتعدد الاصوات في الفصول الثلاثة عشر :
1- اراد الروائي ان يجعل القارئ مشاركا في العمل ويبعد في ذات الوقت الملل عنه وهو يقرأ رواية طويلة متعددة الشخصيات والرؤى 
2- كون الرواية مبنية بالاصل على الصراع الاجتماعي والسياسي والمعاناة النفسية للفرد العراقي في حقبة مضطربة وملتهبة في صراع الايديولوجيات والافكار فانها ستطرح بالتالي مشكلات ومآزق كبرى تختلف فيها وجهات النظر كما اراد الروائي في ذات الوقت ان يقحم القارئ في الرؤية والتنبوء بما يجري من احداث..
3- يجعل السرد المتعدد الاصوات العمل الروائي متسما بمزيد من الموضوعية والجرأة ايضا بما يجعل القارئ يلمس بصدق تقاطع الافكار والمشاعر  وتلاقيها كما يتحسس الزمن ببعديه المحكي والنفسي..
وتجدر الاشارة اخيرا الى ان السرد المتعدد الاصوات قد لمسناه في روايات عربية متعددة منها شرق المتوسط حيث يظل في الذاكرة صوت رجب وأنيسة وراوية رجال في الشمس لغسان كنفاني والسفينة لجبرا ابراهيم جبرا وميرامار لنجيب محفوظ..
ب- في الحوار وطريقة العرض :
* استخدم التكرلي اللهجة الشعبية البغدادية في الحوار برواية الرجع البعيد وهو حال يشترك فيه مع القاص غائب طعمة فرمان ، ولذلك حظيت عند ترجمتها الى اللغة الروسية والفرنسية بأهتمام ودراسات النقاد الاجانب اكثر من النقاد العرب اذ يعود ذلك فيما احسب الى لغة الحوار التي كتبها التكرلي باللهجة البغدادية الدارجة التي تُفهَم دلالتها عند ترجمة الرواية الى لغة اجنبية بواسطة جهد المترجم لكن هذا الحال لايتحقق للقارئ والناقد العربي غير العراقي حيث لاتُفسَر معنى المفردات الحوارية باللغة العربية الفصحى. 
ومهما يكن فأن الاستخدام المفرط للهجة البغدادية الدارجة في الحوار جعل الشخصيات تبدو اكثر واقعية وذات مصداقية حتى ان الرواية بدأت بحوار الطفلة سناء وهي تتحدث الى جدتها بلفظة (بيبي) لكن ذلك افقدها التميز في البلدان العربية..
* (يعمد الروائي في بعض الفصول الى البدء من نهاية الحدث في العرض القصصي معتمدا التلميح والاشارة حيث يداهم القارئ بالحدث ويحرك في نفسه الرغبة والمتعة في الاكتشاف والتصور ، كما يقوم بتكثيف الاحداث ليحث القارئ على التوقع ويجعله مشاركا في الحبكة متخيلا لما ستؤول له الاحداث.). 
ج- من الاراء النقدية الرصينة التي انارت مواضع الابداع في رواية الرجع البعيد اشير الى هذه الاراء التي نلمس موضوعيتها ونحن نقرأ فصول الرواية :
1-(ميزة الاعمال الروائية الكبيرة انها تعبر عن مضامينها (الثيمات) في مشاهد انفتاحها ، وهذا ماشهدته رواية الرجع البعيد حيث يمكن ان تكون على معرفة بجميع شخقيات الرواية المتعددة من قراءة الفصل الاول ، وهذا يعني ان الروائي قدم مشهدا مميزا بالتنوع والثراء)  .
2- (على الرغم من ان الرواية تتعرض لحقبة ملتهبة في تأريخ العراق الحديث الا اننا نكتشف بقراءة رواية الرجع البعيد حقيقة ان الرواية غير معنية من ناحية فنية بأيجاد الحلول من جهة وهو سرّ تميزها ، ونلمس ان الروائي اختار الحياد المرّ لكنه احتفظ بمسافة واضحة بينه وبين شخصية عدنان الفض الغليظ المنحرف السلوك والدي ينتمي الى الحرس القومي بما يكشف بشفافية ودون مباشرة موقف الروائي وحسّه الانساني.).
3-اود ان اشير الى بحوث رصينة في موضوع السرد والسرديات ، وهي كثيرة ومنها :
1-  السرد الروائي /د. آمنة يوسف
http://www.fikr.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A
2- الراوي والمنظور في السرد الروائي
الدكتور الراحل محمد عزام- سوريا
http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=43887

 
 

عن الكاتب "فلان"

وصف موجز عن الكاتب هنا، كما يمكنكم متابعتي عبر المواقع الإجتماعية أدناه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Translate

إبدء الكتابة للبحث ثم أنقر enter