شخصية الفرد العراقي وطروحات العلامة علي الوردي

شخصية الفرد العراقي وطروحات عالم الاجتماع العراقي علي الوردي
*اولا- مقدمة اولية في المنهج :
يمثل الوطن في الواقع تجمع بشري في بقعة من العالم وليس ارضا وطبيعة صماء..
لذا فأن الحب والانتماء الذي يربط الفرد بالارض والناس وشكل الحياة المميز في مظاهرها المتنوعة بالبلد ، يشكلون معا ذاكرة الوطن ، لذا من يتحدث عن العراق ، تلك الارض الطيبة العزيزة كمن يفتح نافذة على تاريخ وطبيعة شعبه بطيبته وظلمه وفقره وشجونه وقد تلون جلبابُه وارضُه ومياهُه بالدماء والفقر والحروب والنفاق والفتن والتعنصر والعصبية ، مع ساسة قساة بظلمهم او فسادهم ، امّا الصالحون الصادقون بينهم فما كانوا محدودي العدد والتأثير في الواقع وما عاشوا على هامش التأريخ لكنهم ضعفاء السلطة والمنعة واذا صمدوا وسمى شأنهم تراهم مُتعبين وقد قصُرَت اعمارهم او تساقطوا كأوراق الخريف في ليلٍ عاصفٍ طويل..
هذا حاُلنا ودأُبنا في سفر تأريخنا العريق.. ،
كما يقول المثل العراقي (شي مايشبه شي)..
فالجهل في العوام يقابله العلمُ في بلدٍ انجب كبار العلماء والادباء بما لم نجده في بلد آخر بذات الحدود السكانية والجغرافية ، وان الغلظة والقسوة في سلوكنا توازيه صدورٌ لن تجد اطيب منها في العالم ، وان روح التمرد وعدم الولاء والنفاق تقابله مواقفَ حقٍ لاتبلى وشجاعةَ قلوبٍ لاتهون...
وهكذا ترى حالنا (كالشيء ونقيضه) ، وبقلوب شتى ومزاج متقلب وطبع لايقر بطعم او بلون...
فلا نأكل لحم الخنزير لكننا نأكل لحم بعضنا ،  وقد لانقرب الخمر لكننا نقارب الحرام ونسعى له بالخفاء ، نصلي بامتياز لكننا نكره النظام ونكذب في المشاعر واللسان ولاتجد نظيرا لنا في (الخمط) والسرقات..
هذا حالنا في رحى التأريخ وحال الوطن الموصوف في شخصياتنا..
وكلنا نتذكر ماقاله الامام علي في شأننا ، ولعل مقولته (لا اصلحكم بأفساد نفسي) تحمل اعمق دلالة في ان الدنيا بملذاتها واهوائها هي التي تأخذ الحيز الاكبر في حياتنا ، لكننا نريد ان تكون منظومة القيم الدينية والانسانية الرفيعة هي الوعاء او الاطار الجميل الظاهر وان كان محتوى الوعاء او صورة الاطار غير متجانس احيانا او مشوشا غير واضح..
* في ظل هذه المقدمة...
كان الاطار العام لطروحات عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي (1995--1913) عن شخصية الفرد العراقي ، وهو الاستاذ الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس عام 1950 والتي ابان عنها في كتابيه (لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث) و (شخصية الفرد العراقي)..
وقد تميزت ابحاث العلامة علي الوردي بالصبغة الانثروبولوجية الاجتماعية ، مع العلم ان الانثروبولوجيا اي (علم الانسان) هو علم ذو  فرعين ، هما الفرع الطبيعي الذي يتناول طبيعة الانسان في ضوء التاريخ الطبيعي والمتحجرات لدراسة السلالات والاعراق والسلوك ونظريات التطور..، والفرع الاجتماعي الذي يدرس طبيعة المجتمعات واشكال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وانماط التقاليد والاعراف السائدة والاديان ومظاهر البداوة والتحضر..
كما تاثر الاستاذ الوردي بمنهج ابن خلدون في علم الاجتماع مع انه درس مفاهيم علم الاجتماع الحديث في ضوء التطور الفكري والفلسفي للحضارة الغربية بعد عصر التنوير وعصر النهضة في القرن الثامن عشر حتى نضج مفهوم الاجتماع كعلم حديث على يد الفيلسوف الفرنسي (اوكست كونت) ، وقد قدمت الماركسية تفسيرا ماديا للتاريخ وتطور المجتمعات في ضوء طروحات المادية التاريخية ، لكن الاستاذ الوردي لم يتخذ المنهج الماركسي ولا الفكر الايديولوجي القومي قاعدة اساسية في ابحاثه بل اعتمد منهجا علميا واقعيا في تحليلاته الاجتماعية على طريقة العلامة (ابن خلدون) ، كما انه تاثر بتحليلات (الجاحظ) الاجتماعية والنفسية للسلوك البشري والتي وردت في آثاره منها رسائل الجاحظ التي جمعت في اربع مجلدات والبيان والتبيين وكتاب البخلاء وحكايات الشطار والعيارين..
* ويستخدم العلامة الوردي مصطلح الثقافة الاجتماعية بدلا من مصطلح الحضارة للدلالة على المصطلح الغربي(Culture) ، ويعرف الثقافة الإجتماعية :
(بأنها مجموعة التقاليد والقواعد والأفكار الموجودة في أية أمة من الأمم . وهي تشمل مختلف شؤون الحياة فيها كالدين والأخلاق والقانون والفن والصناعة واللغة والخرافات وغيرها..)
* ومن الجدير بالذكر ان نشير -هنا- الى ان العلامة الوردي قد قسم الجغرافية الثقافية العراقية الى ست مناطق ثقافية في موسوعته (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) ، والمناطق الثقافية هي :
المنطقة الجبلية - منطقة ديالى - منطقة الجزيرة - منطقة الصحراء - المنطقة الرسوبية - منطقة البصرة)
واشار فيها الى (ان منطقة الجزيرة وهي شبه صحراوية اعتنقت القبائل فيها المذهب السني السائد في الصحراء العربية).
على حين ان القبائل -ذات الجذر المشترك - التي سكنت المنطقة الرسوبية اعتنقت المذهب الشيعي بفعل قربها من النجف وكربلاء واحتكاكها بالسكان مع ثقافة المجتمع الدينية هناك..
كما اوضح ان المنطقة الرسوبية التي تشمل وسط العراق وجنوبه هي :
- (المنطقة التي أعطت العراق طابعه الاجتماعي الذي اشتهر به منذ قديم الزمان . وهي البودقة الرئيسة للمجتمع العراقي ، وفيها تبلورت الشخصية التي تميز بها الفرد العراقي بوجه عام )
- وانها (أكثر مناطق العراق أهمية من الناحية الإجتماعية والتاريخية ، وأن القدماء إذا ذكروا العراق عنوا به هذه المنطقة ، وهي التي احتضنت الحضارة ، وتحمل مقوماتها إذا ما ازدهرت الزراعة فيها)
                **********************
*ثانيا- من اهم ملامح او مميزات الشخصية العراقية التي اشار اليها العلامة الوردي في دراسته للمجتمع العراقي والبغدادي والتي انحدرت اغلب تقاليده من عهود الخلافة العباسية ومن الاعراف الدينية والثقافة الاسلامية ودور المناسبات الدينية في المجتمع العراقي كالمولد النبوي الشريف وايام محرم وعاشوراء..

1- ازدواجية الشخصية العراقية بين قيم البداوة والتحضر :
ذلك ان العراق بحكم الجغرافية التي جعلته مجاورا للجزيرة والصحراء العربية كان بوتقة لصهر البدو المهاجرين ودمجهم بالسكان مع تعرض العراق لهجرات كثيرة عبر التاريخ بحكم سهوله ونهريه وخصوبة ارضه.. 
ولهذا تجد شخصية الفرد العراقي ازدواجية لانها تحمل قيم البداوة والزراعة والروح العشائرية من جهة وقيم الحضارة والتمدن بفعل اتصاله بثقافات الشعوب المتحضرة الاوروبية والاسيوية ، فالعراقي يحرص على قيم الكرامة والحمية والغلبة كما يهتم بقيم التحضر والتمدن ومعطيات قيم الثقافة والحضارة الغربية.. 
وليست البداوة بشكلها العام دالة على الغلظة فحسب بل ان من المعطيات الحسنة للبداوة والتركيبة العشائرية مع وجود الثقافة الاسلامية انها جعلت المجتمع العراقي يمتاز بالتماسك العائلي القوي واحترام التقاليد والشرع الاسلامي كما كسبت شخصية الفرد العراقي ميزة الكرم والعزة والاباء والمرؤة ، لكن تداخل قيم البداوة والتحضر مع ثوابت الدين الاسلامي ومعطياته التاريخيه جعلته شخصية الفرد العراقي مركبة او مزدوجة ومتمردة.. 
وازدواج الشخصية هي ظاهرة اجتماعية عريقة في حياة البشر ، وتسمى في علم الاجتماع (بالثنائية الثقافية) وهي تحدث لدى اغلب الناس (الذين يعانون صراعا ثقافيا) بين مركزين جاذبين للنفس يسودان في ظرف تاريخية معينة..
وبهذا الصدد يؤكد العلامة الوردي
(ان التناقض موجود في كل نفس بشرية ولكنه في النفس العراقية اقوى واوضح) بفعل ازدواجية قيم البداوة والزراعة مع التمدن والتحضر..
وان هناك ثلاث مركبات للثقافة البدوية هي :
(العصبية ، الغزو ، الكرم والمرؤة)
لذلك يصف البدوي بانه ( وهاب نهاب)
وان تداخل وتناقض هذه المعطيات الثقافية الاجتماعية اثرت في تشكيل شخصية الفرد العراقي ، وهذا التأثير المتبادل يسمى في علم الإجتماع بالصراع الثقافي. 
ويوضح العلامة الوردي ان الكرم من القيم البدوية التي تجلت بوضوح في شخصية الفرد العراقي عند اكرامه الضيف حتى لو كان المضيف بسيط الحال ، كما تتصاعد وتيرة الكرم والاطعام في المناسبات الدينية مثل رمضان ومحرم وصفر حيث يتداخل هنا العامل الديني ايجابا مع طبيعة الشخصية العراقية التي عرفت بالكرم.. 
كما يقول في ذلك :
(ان العراقي بازدواجيته هذه ليس منافقا او مرائيا كما يحب البعض ان ينعته بذلك ، بل هو في الواقع ذو شخصيتين، وهو إذ يعمل بإحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الأخرى ، فهو إذ يدعو الى المثل العليا أو المباديء السامية، مخلّص فيما يقول، جاد فيما يدّعي ، أما اذا بدر منه بعدئذٍ عكس ذلك، فمردّه الى ظهور نفس أخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فَعَلتْ)
ويوضح الازدواجية بأمثلة منها :
(أن العراقي سامحه الله أكثر من غيره هياما بالمثل العليا ودعوةً اليها في خطاباته  وكتاباته ، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته)
و (أنه أقل الناس تمسكاً بالدين، وأكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية، فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى).

2- ظاهرة عدم الولاء والجدال في شخصية الفرد العراقي :
وهي نزعة قوية في الشخصية العراقية وعميقة في جذرها التاريخي ، وهي تظهر في كل الظروف بل انها تجلت حتى في الحقب التاريخية التي يكون فيها الحاكم ممن يوصف بالعدالة والانسانية ، ويكفي اننا نقرأ في التاريخ ان الامام علي بن ابي طالب خطب في اهل الكوفة  :
(لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا) ، (اللهم اني قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فابدلني بهم خيرا لي وابدلهم بي شرا مني)
(الا واني قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرا واعلانا... ، وافسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش ان ابن ابي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب )
وذلك ما يؤكد ان اهل العراق لم يوالوا الامام علي بل كانوا يعصونه حتى ظهر منهم الخوارج على الرغم من علمهم بعدالته وحقه وايمانه وفضل سبقه في الاسلام..
وجرى بعد عهد الامام علي ماجرى في خذلانهم للامام الحسين وعدم ولائهم وقتاله في واقعة الطف الاليمة..
وعندما نتقدم الى التاريخ الحديث نقرأ ماجرى على العائلة المالكة والوصي ونوري السعيد من بطش وتمثيل رهيب ،  وماجرى بعده لزعيم الشعب عبد الكريم قاسم من قتل بلا محاكمة والقاء جثمانه في نهر ديالى مع اننا نقرا اليوم في كتب السيرة والتاريخ ان الرجل كان وطنيا نزيها احبه بسطاء الشعب.. 
وذلك مايؤكد ظاهرة عدم الولاء ونزعة الخصومة والجدال في شخصية الفرد العراقي.. 
ويكشف العلامة علي الوردي هذه الظاهرة من ناحية تاريخية واجتماعية وسياسية ويذكر عيوبها وايجابياتها ، ومنها :
- ان العراقي يتحمس لفكر ما او لزعيم ثم تضعف الحماسة لديه حتى تصل فيما بعد الى حد النفور والعداء..
- وان هذه النزعة هي التي جعلت العراق ارضا خصبة لنشوء مذاهب فكرية ودينية متقاطعة ويضرب مثلا بظهور حركات فكرية وسياسية منها مذهب المعتزلة في العصر العباسي الثاني الذي يعتمد على الادلة العقلية والجدل المنطقي وحركة الخوارج والزنج ، كما ان من معالم النزعة الجدلية هو وجود صراع طائفي مذهبي يخبو حينا وينضج حينا آخر وكثرما يتحول من حوارات وادبيات  الى عراك وفتن..
- وتطورت نزعة الجدل والملل في العصر الحديث من قضايا المذهب والعقائد الدينية الى قضايا سياسية واجتماعية متصارعة اخذت حيزا واسعا في الساحة الثقافية والسياسية في العراق كالنزاع القومي - الماركسي ، والديني - القومي ، والاشتراكي الليبرالي..
واذا كان من عيوب النزعة الجدلية انها تجعل الفرد يطالب بالحقوق اكثر مما يقوم بالواجبات وينتقد غيره دون ان يصلح حاله الا ان من ايجابياتها انها تفتح افاق العقل ووعي الفرد وتجعله اكثر ميلا للقراءة والاطلاع ..

3- ميل الفرد العراقي للتقاليد والاعراف العشائرية والاجتماعية السائدة اكثر من ميله للحدود الشرعية الاسلامية :
ويرى العلامة الوردي ان مرجع هذا الميل يعود الى ضعف (التدين) لدى العراقي على الرغم من اهتمامه الظاهري بثوابت الدين والشعائر الاسلامية..
ولذلك ترى العراقي يتباهى في عروض افراحه واحزانه ويقيم ولائم الفرح والعزاء بما لا يتطابق مع المعاملات الشرعية ، ويجري اخذ الفدية في الفصل العشائري بطريقة لايرضاها الشرع في اكثر الاحيان ناهيك عن ظاهرتي الثأر والغدر بطريقة قاسية وهو يسمع ويقرأ النص القرأني الكريم الذي يقول (لاتزر وازرة وزر آخرى)..
والواقع ان رجال الدين والخطباء في يوم الجمعة وفي المنابر الحسينية بذلوا جهدا طيبا في حث الناس على الرجوع الى الحدود الشرعية والاخلاقية الاسلامية في تعاملاتهم الاجتماعية والاقتصادية وتنوير الشباب على التمسك بالاخلاق وهوية الثقافة الاسلامية في سلوكهم ومظهرهم واحترامهم لانفسهم وبلدهم ومقدساتهم ، لكن البعض يغض النظر بل ان هناك من ينتقد بدعوى الحرية ، وما انكى ان تكون الجهر بالابتذال وعدم مراعاة الاداب العامة من معطيات الحرية..
***********************************

عن الكاتب "فلان"

وصف موجز عن الكاتب هنا، كما يمكنكم متابعتي عبر المواقع الإجتماعية أدناه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Translate

إبدء الكتابة للبحث ثم أنقر enter