مقالي المنشور في مجلة المرايا/ قراءة نصية للقطعة الشعرية (تجارة) للشاعرة افتخار هديب
القطعة الشعرية (تجارة) للشاعرة السورية افتخار هديب -ادناه- هي في مضمونها العام تداعيات خطّتها الآمال من رؤية فكر واحساس شفيف لراوٍ يكتب سِفرين من حكاية آماله يشترك بها معه في الشخوص حارس (بوابة الامل) ذلك الحكم الذي ينتهي عنده سباق بائع الاحلام وبائع الاكفان ومن يفوز منهما ، مع جمع او كومبارس يرقصون على الخيبات ويزحفون على الزجاج المطحون بكناية جميلة عن النفوس المحطمة او الاحلام المطحونة في رماد الخيبات..
وثيمة القطعة هو ذلك الشجن العميق الذي تهمي له العيون بصمت ، وذلك النور الذي يتحسسه الصدر ولاينبثق الا افكارا ورؤى يؤطرها صدق الاماني الجميلة التي لاتصلح للبيع والشراء كما يحصل لمن يراهن بالغلبة في تسويق مشاعره..
اولا- في بوكير الامل والرؤية وشجونها :
أ- يبدا المقطع بتقديم صورة حسّية جميلة ورؤية عميقة
(هذهِ روحٌ لأحدٍ ما/ وبالهوسِ المَجنونِ فيها/المُنْبَثِقِ مِن فِكرِ الإرباكِ/تُحلِّقُ بِلا أجنِحَةٍ/كسِياحَةِ الأُمنيةِ..)
وهي مقدمة تعبيرية للنظر الى الذات من الخارج في ضوء رؤية تحاكي النفس الانسانية بهوسها المجنون وتشظي افكارها.. وقد وصفت في السرد بتشبيه مجازي جميل :
تُحلِّقُ بِلا أجنِحَةٍ/كسِياحَةِ الأُمنيةِ/ بلا سُرعةٍ .. كأنَّه النَّومُ/ أو نعاسُ الجاذبيَّةِ )
للتعبير عن روح تسبح في الفضاء كالطير وكسياحة الامنية في خيال من يغشاه النوم ويجذبه النعاس ..
وهي روح لاتنشد الانا في انانية التملك بل تحلق بأمل حيي جميل للجوانح لكن الخيبات هي التي قصت اجنحة الطائر وتخاتلا هي والاماني ، فلا نجاة في الافق :
(كأنَّ النَّجاةَ لمْ تُخْلَقْ بَعْد/والخَطرُ بِآخِرِ عُهودِ الظَّنِّ !!)..
وهي صورة فنية معبرة عن رؤية فكر وحسّ نافذ يستبق الاحداث ، وكأن هذه الرؤية تخطر على النفس بظلّها التي تحسبه حصادا لسعيها او خاتمةً لعهود الظن حيث لانجاة في الافق ، والخطر في آخر تلك العهود..
لتنتهي -كما سنقرأ لاحقا- الخيبات في اناقة وتنصرف الخسائر على نوع ما..
ويعزز هذه الصورة او يتناغم معها ذلك المجاز الجميل في المقطع التالي :
لوهنٍ يُغِرق الذات بارتفاع منسوبه ، ولشمسٍ ينأى فجرها في غيبوبة :
(يَرْتَفعُ مَنسوبُ الوَهنِ/والشَّمسُ تَثْمُلُ/تَنتَظِرُ صَحوَ الأَذانِ)
ب- تنقلنا القطعة بعد ذلك الى اسلوب استفهامي يحمل روح الشجن في القطعة تعقبه تداعيات الذات التي تنتهي برزم الاوراق وتأبط حقيبة السفر..
(مَنْ منَّا سيُذيبُ حبيباتِ السُّكَّرِ/المَنثورةِ فَوقَ أَعْناقِ السِّلالِ!؟/ومَنْ يقودُ الدِّوارَ بأنحاءِ المَدارِ!؟)
لاشك ان دلالة هذا التساؤل نقرأ فيه معنى المبادرة ، ومَن يحملها ليقود الدفة في محيطها الآمن وكأن صفو الحياة والكون في مركز المدار..
لكن ذلك التساؤل يؤول الى لحظات درامية -اذا صح التعبير- للذات التي تنشد الجمال والحقيقة ، يؤطرها الشحن التعبيري باسلوب التعجب حتى نلمس تلك الهوة البعيدة بين التساؤل والجواب الذي مازال غائبا وغائما..
وترد في المقطع التالي (ها انا) مرتين :
(#وهاأنا ..
أجفلُ منِّي ../ومِن اِصْطِفاقِ أَجْنِحَتي ..
و وقودي بِرائِحةِ الخُشوعِ ..
حتَّى تتجعدَ أَنحائِي بِخضوعٍ !!
#وهاأنا ..
( لازلتُ أذكُرُ )
وأُحِبُّ الرَّحيلَ عِندي/ إلى آخِرِ فَجٍّ في نَفْسي
سَأرزمُ أَوراقي ومُذكَّراتي
وأتأبَّطُ حَقيْبَةَ سَفَري)
ومن جميل التصوير الفني هنا عبارتي :
(اجفل منّي ومن اصطفاق اجنحتي) ، و (احب الرحيل عندي)
التي تصور -بأيجاز- تداعيات التعجب حين يؤسر الخضوع كيان المرء فتنكفأ الى داخلها
وترحل من غربة الواقع الى وطن الذات وهي صورة موجعة وبوح مضّ لتداعي النفس
ويظل ماتنشده الروح ممتدا الى آخر فج في النفس..
-----------------------------
ثانيا- في مرحلة نضج الرؤية والاحساس :
وهي المرحلة التي يُختَتم في نهايتها سِفر الحكاية في ظل صراع الوجود بين ذراع الأمل والحياة وذراع البؤس والموت..
أ- يبدأ فصلها الاول بمحاكاة عقلية تجعل للخيبات محطة ممكنة وانيقة قد نترجل فيها بوعينا واراداتنا لنصرف الخسائر على نوع ما..
وفي طيّها صورة جدلية ايضا للصراع بين الاحساس الجميل في انتظار الامل وبين قدر يحمل سطوة بنات الدهر ، وتؤطر هذه الصور التعبيرية فكرة تفلسف الخيبة (على شيء من اناقة ورتابة في القناعة وقبول الخسارة..
(الآن انتهى عَهدُ سِفري
أطوي بهِ انتظاراتِ أَحاسِيسي
ومُفاجَآتِ القَدرِ / وكلَّ اِعتِقادٍ عِندي
بأنْ تَكونَ خَيْباتي/ على شَيءٍ مِن أَناقَةٍ
ورَتابَةٍ في اِنصِرافِ الخَسائرِ/ على نوعٍ ما !!)
وان هناك فرق في الرؤية بين ماتراه الذات ومايراه الاخرون :
(إنَّه القَلقُ على حَدِّ ما يُسَمُّون/والضَّبابُ على حَدِّ ما أعْني)
ب- ينقلنا هذا التباين او التضاد في الحكم الى المقطع التالي الذي يصور بكاميرا ذكية وصف الشتات من الآخرين لينتهي باجمل كناية عن النفس المحطمة التي طحنتها نار الانتظار والوجد الشاجر..
(مِن كُوَّةٍ في بُهرجِ الأَلوانِ
يَغرقُ الإشعاعُ بِكُلِّ جِهاتي/تَضْطرِمُ الحَرائقُ
ويَرقُصُ الجَميعُ كَهنودٍ حُمْرٍ /على جَمرِ الخَيْبةِ
يَتساقَطونَ عَلى المَحافِلِ
ثُمَّ يَزحَفونَ/ عَلى الزُّجاجِ المَطحونِ !!)
ج- ونصل اخيرا الى تلك الخاتمة الدرامية في انتظار حارس بوابة الامل ، ذلك الذي تنتهي عنده حكاية الامال لتؤول تجارة للسباق يفوز فيها بائع الاكفان ويفلس بائع الورد والاحلام..
(يَفتَحُ الحَارسُ الهاوي بَوَّابَةً
ويَنثُرُ ماضاعَ منِّي/ يَلتَحِفُ أُمنِياتي
ثمَّ يَختَفي مابَينَ المَداراتِ !!
قدْ أَفْلَسَ بائعُ الأَحلامِ
#وفاز_بائع_الأكفان)
ومن المناسب ان نذكر ان كلمة (الهاوي) تحمل -هنا- اكثر من معنى في اصل الفعل المشتق منها ، ولعل الاقرب الى روح النص هو غير الضليع في فهم ماشفَّ من جميل الحسِّ وماخفي عن لهفة الامل..
ينثر (لايلمُّ) ما ضاع مني ويلتحف امنياتي
ثم يختفي مابين المدارات..
ليعود التساؤل الاول من جديد :
(من يقود الدِّوار بأنحاء المدار)
**********************
ثالثا- في ايقاع القطعة :
للقطعة ايقاع ينسجم ويطّرد مع الجو النفسي لمسار النص ، فلا نلمس اضطرابا شاخصا في الايقاع بل سنجد في تقطيعها عروضيا -وبعد اجراء تعديلات طفيفة في النص لمتطلبات التفعيلة- سنجد ان تفعيلة المتدارك وتحويلاتهما (فاعلن) هي الحاكمة في القطعة ، وقد لحظت ان الشاعر قارب بنظمه بين تفعيلة المتدارك (فاعلن) مع المتقارب (فعولن) احيانا وتفعيلة الرجز (مستفعلن) التي ترد احيانا بالقطع (مستفعلْ) ، وبالخبن (مفاعلن) او بالشكل (مفاعلُ)
ولنأخذ هذه الامثلة :
1- هذه روحٌ لأحدٍ ما وبالهوس المجنون فيها
أ- هاذهي/ روحن/ِ لِأَ حدن
فاعلن/ فعْلن/ فعِلَتن..
والاخيرة من تحويلات مستفعلن ( بالخبل) اي ادخال (الخبن + الطي) لتكون متَعلن وتنقل الى (فعلتن)
ب- ما وبلْ/ هوَسلْ/ مجْنو/ نُ بِهَا
فاعلن/ فعِلن/ فاعلْ/ فعِلن
اذ يمكن ان تُكْتب (بها) بدلا من (فيها) لاسباب ايقاعية اولا ، ولان من معاني حرف الباء اللغوية الظرفية والالصاق..
* يَرْتَفعُ مَنسوبُ الوَهنِ
والشَّمسُ تَثْمُلُ
تَنتَظِرُ صَحوَ الأَذانِ
يمكن ان يُكتب الفعلان (يرتفعُ ، تنتظرُ) :
(يعلو ، تأملُ) لاسباب ايقاعية :
يعلو/ منسوبل/ وهني
فعْلن/ مستفعلْ/ فعْلن
وشْشمْسُ/ تثْمُلُ
مستفعلُ/ فاعلُ
تأْمَلُ/ صحْولْ/ أاْذاني
فاعلُ / فعْلن/ مستفعلْ
--------------------------------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق