مقالي المنشور في مجلة المرايا الادبية العدد 13 مايس 2019/ قراءة تحليلية للقطعة الشعرية (امنحني وقتا) للشاعر عباس خلف عباس

       قراءة تحليلية للقطعة الشعرية..
              والنص نهاية المقال
1- مقدمة :
تتكون القطعة -ادناه- من احدى عشر مقطعا تتشكل فيها صور حسّية تأخذ القارئ لافقٍ بعيد يتشظى فيها انعكاس الواقع على الذات وترتد على مرافئه امواج من وجدانٍ شاجر يشبُّ كالزلزال جموحاً وارتداداً في كل الاتجاهات بعد ان تقذف الافكار المتقاطعة المضطربة فيه حمماً من بركان الغضب الصامت والسأم واللاجدوى ووهن الانتماء لواقع الموت والبؤس وجفاف الارواح..
وهكذا يلمس القارئ ان ثيمة القطعة هي الحزن والتمرد والعناء من واقع قاتم يسلب الارادة بفرض خياراته وسطوته ، لاسيما نحن نعيش في بلد مترع بالطغاة والفاسدين من الحكام على مرّ التأريخ ، وهم لم يتركوا لنا خيارا حتى في الهجرة الأمنة..
والجميل في ذلك ان هذه الثيمة تتجلى فنيا بتشكيل صور شعرية ساخرة تكشف عن التقاطع الحاد بين الكاتب كفرد او مواطن وبين واقعه..
ولعل هذا الاحساس هو محصلة القراءة العامة للنص وإن اختلفنا في الرؤية بيننا او حتى مع الكاتب نفسه في المعنى المجازي للجملة الشعرية او الكناية التي تُعْنى بها الكلمة او التعبير هذا او ذاك..
وسنمر فما يلي على مقاطع القطعة ، ونختم القراءة في موضوع ايقاع القطعة وتحولات التفعيلة فيها بشيء من توضيح موجز..

2- المقطع الاول والثاني يضج بالمفردات التالية (بحر ، شراع ، ريح ، موج) ، ويرسم في المخيلة صورةً لحوار بين عقل يبحث عن حل ونفس هائمة بروح الطير لكنها تبدو (كبحار ابله) يدور في بحر متلاطم الموج ، ولايعرف سبيل مرافئ الامان ولايكترث لغدر البحر.
( الموج ليس جناحا..والسماء بعيدة)..
اما الفاعل المخاطب في جملة (امنحني وقتا) فقد يكون (قدر الشاعر) او سلطان الظلم والظرف الحاكم في عالمه الخاص ، او العام الاوسع في وطن تمترس فيه الطغاة واعوانهم ، كما قد يعود الضمير المتصل (ي) كمفعول به لا على الشاعر فحسب بل على اي انسان محكوم بارادة الظلم والشر في بيئته وبلده..

3- في المقطع الثالث نلمس فسحة الامل في الهروب خارج حدود الموت وقبح الكراهية والجدب الى الحبّ حيث الحرية والسلام ، ذلك الحلم المفقود الذي يجعل الدنيا متسعا للجمال والربيع..
(امنحني وقتا ، كي اهرب نحو الحب ، فالدنيا ماعادت تتسعُ ، للقلوب الخالية او الخاوية..)

4- وعلى العكس من ذلك نجد مفردات المقاطع اللاحقة (الرابع ، الخامس ، السادس ، السابع) التي تصور لعنة القدر وكراهية المصير حيث الضياع والمتاهة..
* ونلحظ -هنا- استخدام الاداة السببية الناصبة (كي) للدلالة على سخرية التعليل وبؤس الايام والحال او الواقع :
امنحني وقتا :
- (كي اخلع رأسي ، واركب رأسا آخر ، دون حواس)
- (كي ازرع حولي رايات سوداء ، بلون الثلج المتساقط من عين الافعى)
وهي صورة مثيرة في التشبيه اللوني مع وجود التضاد اللفظي بين اللون الاسود للرايات واللون الابيض الناصع للثلج ، والذي تفسره الكناية عن عين الافعى ولعلها -هنا- تعبيرا عن الشر والرؤية القاتلة التي تفتح سبيلا الى الموت والفناء..
- كي اطلق آخر رصاصاتي ، كي لا اصبح قاتلا في يوم شاحب
- كي ارسم وجهي ، على قارعة طريقٍ ، اعمى..

* تتضمن المقاطع استفهاما انكاريا خفيا يثور في الوجدان ويدفع بوح الشاعر بهذا التشظي المؤلم وعلى سبيل المثال فالقارى يتحسس صوت ضمير متعب يتسائل :
- كيف يتخلى المرء عن افكاره ويركب رأسا آخرا ؟! لولا بؤس وسطوة القدر…

5- امّا مقاطع القطعة (الثامن ، التاسع ، العاشر ، الحادي عشر) فانها تومض بأنكسار الذات كتحصيل حاصل او نتيجة لفاجعة قلب كان معبئا بالحب وعقلٍ لايقبل ابتذال الافكار..
(امنحني وقتا )
- كي اقلب طاولتي ، لانها لم تعد تصلح ، للدسائس..
- كي اصلب وطني ، ليصبح قبلةً ، بعد فوات الاوان..
-كي اشرب آخر كأس عتقتها ، لاعاقر الموتى..
-كي امس ذاكرتي ، واملأها من جديد ، بما يشبه الاحلام..
* نلمس في هذه المقاطع قسوة النتائج الدالة على الانكسار ، حيث تصفر اوراق الحياة وتتساقط ثمراتها في خريف طويل مكين ، لاربيع بعده ، لا غيث يطول الارض والروح ولا شمس لعشتار..
ونكاد نسمع صوت ضمير مشتت منكسر يفكر بصوت عال ويستفهم بانكار ليقول :
- لاتصلح طاولتي للدسائس
- كيف نصلب الوطن ؟ ، ليستحيل -بعد فوات الاوان- ذكرى نبكيها دموعا نازفة وقبلا..
وهل نهجر الحياة لنعاقر الموتى بعد كأس الياس الاخير ! ، وتلك الذاكرة كيف نتخلى عن جمال ماحفظت من شجون وذكريات حبيبة لتمتلأ باحلامٍ لا واقع لها..
اهكذا يؤول بنا الحال والسبيل ؟

6- في ايقاع القطعة :
أ- من المناسب ان نذكر -اولا - خلاصة ماورد في دراسة رائعة ورصينة عن البناء الايقاعي والصوتي في قصيدة (انشودة المطر للسياب) من كتاب (التشكيل الموسيقي في الخطاب الشعري الجديد) للدكتور فليح الركابي صفحة 141 :
من ان الشاعر السياب (اجتهد كثيرا حين قارب بين تفعيلات ثلاثة بحور في القصيدة هي الرجز والمتقارب والمتدارك) ليحدث تناوبا ايقاعيا ضمن السطر الواحد في القصيدة)
حيث اعتمد الشاعر السياب في قصيدته بالاساس (على تفعيلة الرجز -مستفعلن- بوصفها عمودا فقريا للبناء الموسيقي والايقاعي للقطعة ، وقد وضع في حسابه تحولات تفعيلة مستفعلن الموسيقية التي انسجمت مع التحولات النفسية للشاعر وتحولات الواقع العراقي آنذاك والدعوة الى الثورة والتغيير )
فكانت هناك ست تحولات لتفعيلة مستفعلن في قصيدة انشودة المطر للسياب ، وكما يلي:
(- مستفعلن 20% -
- متفعلن 45% (مخبونة)
- مفتعلن 3% (مطوية)
- فعولْ 16.5% (خبن +قطع) لتصير متفْعل وتنقل الى فعولن ، وعاملها الشاعر بعد ذلك بحسب الاستنتاج كتفعيلة المتقارب (فعولن) التي يجري عليها (علة قصر) فتؤول (فعول)
- فعلْ 15% (خبن +قطع) لتصير كذلك فعولن ، وعاملها الشاعر كتفعيلة المتقارب (فعولن) التي يجري عليها (الحذف) لتصير فعو وتنقل الى (فعلْ).
- فاعلان 0.5% (طي+قطع) لتصير مستعل وتنقل الى فاعلن ، وعاملها الشاعر بعد ذلك كتفعيلة المتدارك (فاعلن) التي يجري عليها علة زائدة هي (التذييل) لتصير فاعلنن وتنقل الى فاعلان.
**************
ب- في ضوء ما تقدم اعلاه..،
فان القطعة الشعرية (امنحني وقتا) اعتمدت في ايقاعها على تفعيلة اساسية هي تفعيلة الرجز (مستفعلن) وتحولاتها ، وان الشاعر هنا قارب بين تفعيلات البحور الثلاث (الرجز ، الوافر ، الرمل) وهي ضمن دائرة الرجز او الابحر السباعية.
اي ان الشاعر - كما سنبين ادناه- قد قارب بين تفعيلات (مستفعلن/مفاعلتن/فاعلاتن) لاشتراكها بالتغييرات التي تؤول او تنقل اليه هذه التفعيلات الثلاث عند دخول الزحافات والعلل عليها ، ولتسمح بالتالي للشاعر بالامتداد والبوح وتشكيل الصور والرؤى..
وعلى سبيل المثال :
- فان تفعيلة مستفعلْ او مفعولن تنقل من مستفعلن (بالقطع) ومن مفاعلتن(بالقصم) ، ومن فاعلاتن (بالتشعيث)..
- وردت تفعيلة (مفاعلن) :
وهي تؤول من مستفعلن (بالخبن) ، ومن تفعيلة مفاعلتن (بالعقل)
- وردت تفعيلة (فاعلن) :
وهي تؤول من مفاعلتن (بالجمم) ، كما تؤول من فاعلاتن (بالحذف)
وقد توائمت تحويلات التفعيلة التي تاخذ القارئ جموحا وارتدادا مع التحولات النفسية للشاعر والتي يكشفها الجو العام للنص خلال مقاطع القطعة ، وكما سنبين في نموذج تطبيقي للمقطع الاول والثاني من القطعة :
- إمْنحْني/ وقتن كي.
مستفعل- مستفعل
- امزْزِقَ/ شراعي
مفاعلن- مفاعلن
- فرْ ريْ حو/ دليْلن
مستفعل- مفاعل
- ولْ امْواجُ/ متاهه
مستفعل- مفاعل
- إمْنحْني/ وقتن كي
مستفعل- مستفعل
- أكْتُبَ لِلُ/ بحْرِ وصِيْ
مفتعلن- مفتعلن
- يَةَ بحْ حَا/ رن أبْلَه
فعلاتن- مستفعل
- ايْيُهَلْ/ غاضِبُ هَدْ
فاعلن - مفتعلن
- دِئْ مِنْ رو/ عِكْ فَلْ مو
مستفعلْ /مستفعلْ
- جُ ليْسَ جَنا/ حن وسْسَما/
مفاعلتن - مستفعلن
- ءُ بعيْدةْ
فعلاتن
------------------------------------------------
في الختام.. فاني احسب ان القارئء سيتفاعل مع القطعة الشعرية في ضوء احساسه الادبي بصورها التي تحرك جذوة روح طال عليها الامل واتعبها السفر في متاهات الحياة ، كما انه لايجد فيها ايقاعا نشازا مرتبكا بل يحسّ ان الايقاع قد جاء متناغما مع الجو النفسي الذي يخلقه الشاعر في نصه اذ يعلن غيضا هنا ويتساءل هناك ، كما لايجد في القطعة الغازا من صور رمزية وتجريد شكلي ممل ترد في بعض قطع الشعر المنثور
********************

النص الشعري (امنحني وقتا) للشاعر عباس خلف عباس :
اِمنحني وقتا
كي أمزقَ شراعي
فالريح دليل ..
والأمواج متاهة ْ

2 . اِمنحني وقتا ..
كي أكتُبَ للبحرِ وصية بحارٍ أَبله ..
أيها الغاضِبُ ..
هَدِئ من روعكْ
فالموج ليس جناح ..
والسماءُ بعيدة

3 . اِمنحني وقتا ..
كي أهربَ نحو الحبِّ
فالدنيا ما عادت تتسِعُ
للقلوب الخالية ..

4 . اِمنحني وقتا ..
كي أخلَعَ رأسي
واُركب رأسا آخر
دون حواس ..

5 . اِمنحني وقتا ..
كي أزرَعَ حولي
راياتٍ سوداء َ ..
بلون الثلج الساقط
من عين الأفعى ..

6 . اِمنحني وقتا ..
كي أطلُقَ آخر رصاصاتي
كي لا أصبح قاتلا ...
في يومٍ شاحب

7 . امنحني وقتا ..
كي أرسمَ وجهي
على قارعة ِ طريقٍ
أعمى ...

8 . امنحني وقتا ..
كي أقلِبَ طاولَتي
لأنها لم تعُدْ تصلُحُ
للدسائِس ...

9 . امنحني وقتا ..
كي أصلُبَ وطني
ليُصبحَ قبلة ً بعدَ
فواتِ الأوان ..

10 . امنحني وقتا ..
كي أَشرَبَ آخرَ كأسٍ عتقتها
لأُعاقِرَ الموتى ...

11 . أمنحني وقتا ..
كي أَمسَحَ ذاكرتي
وأملأها من جديد
بما يشبه الأحلام ..

عن الكاتب "فلان"

وصف موجز عن الكاتب هنا، كما يمكنكم متابعتي عبر المواقع الإجتماعية أدناه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Translate

إبدء الكتابة للبحث ثم أنقر enter