23 ذي الحجة/من مراثي الشعر ومآسي التأريخ
هذه مرثية في شهادة غلامين يتيمين لعبدٍ صالح وأبٍّ شهيدٍ هو (مسلم بن عقيل بن ابي طالب) ، وعرضٌ لفاجعةٍ لو أُنصِفَ ضحاياها لوقعَ اختيارُها يوماً وطنيا للتضامن مع أيتام الشهداء .
# نظم المرثية الجميلة الشاعر سلمان آل طعمة في ذكرى ذلك المصاب الجلل الذي وقع في مثل هذا اليوم سنة 62 هجرية، ونُشِرت في ديوانه : (المديح والرثاء في محمد وآل بيته النجباء)
لكُما في ذرى المعالي مقامُ
وجلالٌ تزهو به الايّامُ
انتُما في الوجودِ موئِلُ فضلٍ
منكُما يُرتجى المُنى والمَرامُ
شرفٌ باذخٌ وأصلٌ كريم
قدْ رسا فيكُما ، فَراقُ النظّامُ
لمصابِ الطفلينِ سالتْ دموعٌ
وبكتْ اعينٌ وشبَّ ضِرامُ
كيفَ لاتندبُ الملائِكُ شجواً
ولِمجديهِما يُطَأطأُ هَامُ ؟
كيفَ لاتُذْرُفُ الدموعُ لطفلي
مسلمٍ إذْ هُما لمجدٍ تَوامُ ؟
اشرقا فرقَدَيْنِ في جُنْحِ ليلٍ
مِثلَما قدْ أطلَّ بدرٌ تمامُ
وَرِثا فضلَ ( مسلمِ بنَ عقيلٍ )
لهُما الخُلدُ مَبْدأٌ وخِتامُ
لهفَ نفسي عليهِما إذ أقاما
تحْتَ شُجْنٍ يَرَبُّ فيهِ الظّلامُ
لايهابانِ إِنْ تفاقمَ خَطْبٌ
ومِنَ الظُلمِّ فيهِ ، والإظْلامُ
يا مُصاباً قدْ أجّجَ القلبَ ناراً
كيفَ أودى بالطاهرينَ اللِئامُ ؟
سوفَ يُسقى العدوُّ كأساً دِهاقاً
مِنْ عَذابٍ تُذَرُّ فيهِ عِظامُ
مرقدٌ فيهِ هَيْبةٌ وجلالٌ
شَخَصَتْ نحوَهُ النفوسُ الكرامُ
طِفْ بقبريهِما المُكَلَّلُ عزّاً
وافْتخرْ فالفَخارُ فيهِ يُقامُ
* ملاحظات لغوية وعروضية *
1- شُجْن : جمع شُجنة وهي الشجر الملتف او الغصن مشتبك الفروع
2- رَبَّ بالمكان : لزمه وأقام فيه
3- النِظّام : هو عقد اللؤلؤ او الخيط الذي يُنظَم فيه اللؤلؤ ..
راقَ : حَسُن مظهرا
والمعنى -هنا- في ذكر نسب اليتمين..
حيث جاء بكناية جميلة عن النسب الشريف والاصل الكريم.. برونق الخيط الذي يجمع فيه عقد اللؤلؤ.
4- القصيدة نظمت على البحر الخفيف
(فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)
- جاء عروض صدر البيت وضرب عجزه تاما ومخبونا : فاعلاتن/ فعِلاتن
ماعدا البيت الاول فقد جاء ضرب عجزه مشعّثا (بحذف اول الوتد المجموع) من فاعلاتن لتكون فالاتن وتكتب فعْلاتن (بتسكين العين)
- وامّا حشو البيت فقد ورد فيه -اكثر الاحيان- جواز الخبن على تفعيلتي فاعلاتن ومستفعلن لتؤولا فعِلاتن ومفاعلن على الترتيب..
5- النص الاصلي المطبوع غير محقق وغير مشكل بالحركات وهناك مشكل عروضي في البيت الرابع والاخير من القصيدة ، وقد اجريت عليهما تعديلا يناسب ايقاع البحر الخفيف ويحفظ المعنى..
والاصل المطبوع :
(كيف لاتندبُ الملائكةُ شجواً
ولمجديِهما يطأطأُ هامُ
طفْ بقبريهِما المُكلّل بالعزَّ
فأنَّ الفخارَ فيهِ يُقامُ)
**********************************
# لاشك ان ماحدث في الثالث والعشرين من ذي الحجة عام 62 هجرية هو امضّ شجون هذا الشهر بعد وقعة الحرَة التي استباح فيها جيش يزيد بن معاوية مدينة رسول الله سنة 63 هجرية بعد استشهاد الامام الحسين (ع) واهل بيته واصحابه في واقعة الطف سنة 61 هجرية..
فهذا اليوم قد شهد اسوء رزية بحق طفلين يتيمين من عترة النبي (ص) وفي قصة موجعة يندى لها الجبين وتقشعر لها الابدان..
هما محمد الاصغر (عُمْرُه عشرُ سنوات) وشقيقه ابراهيم (عمرُه تسعُ سنين)..
واذكر -ادناه- سردا موجزا في ضوء أحداث القصة وحوارياتها لتبيين عمق هذه المأساة الانسانية :
* كان الغلامان (محمد وابراهيم) من ايتام الشهيد مسلم بن عقيل بن ابي طالب قد لاذا بالفرار بعد واقعة كربلاء واستشهاد الامام الحسين (ع) ، لكنهما أُسِرا لدى امير الكوفة عبيد الله بن زياد وأُودِعا السجن..
ثم هربا بمساعدة السجّان بعد ان علِم قرابتهما من رسول الله (ص) وانهما من ذلك البيت الذي حفّه الله بالكرامة واجتباه بالرسالة ، فطفقا يبحثان عن مكان أمن بين القرى في ضواحي الفرات ..
وشاء القدر ان ينتهيا الى باب امرأة عجوز كريمة بعد ان جنَّهما الليلُ فآوتهما وقدمتْ لهما الطعامَ والشراب واحسنت اليهما لاسيما انها عرفت ان الغلامين من عترة نبي الرحمة (ص) وقد هربا من ظلم سجن ابن زياد املاً في النجاة والحرية..
لكن للعجوز ختنٌ فاسق -(والختنُ في اللغة: رجلٌ من قبل المرأة كأبنها او أبيها او زوج أبنتها..)-
وهو احد الظالمين والظلاميين من أسلاف النواصب والدواعش ، وممن شهد واقعة الطف مع جند أمير الكوفة (عبيد الله بن زياد) ، وكانت العجوز تخشى ان يصيبَهما في البيت فيأسِرُهُما او يقتلُهُما..
وحصل ان عادَ ختنُ العجوز هذا في عتمِ الليل بعد ان كان ممن يهمّ في البحث عن الغلامين ، فسمع غطيطَهُما في جوف البيت ووقفَ عليهما وعرف بأمرهما بعد ان (اعطاهما الامان) إن صدّقاه الحديث وقد فعلا بأخباره الحقيقة..
لكنْ ما ان صار الصبح حتى نكثَ العهد وحزم أمره على حزّ رأسيهما عند شاطئ الفرات..
وقد حاولت السيدة العجوز -أول الامر- صدّه عن قتلهما وتوسلت له وذكّرته ان محمدا (ص) سيكون خصمه يوم الحساب ، كما ان عبداً اسوداً يملُكهُ رفض ان يمتثل لأمره ويكون اداةً للقتل بعد ان اخبره احد الغلامين انهما من عترة نبيه محمد (ص) وذكّراه بمكارم بلال الاسود مؤذن رسول الله ، فرمى العبد السيف عنه وطرح نفسه في الفرات عابرا الى الضفة الثانية..
لكن هذا الشقي الضال أصر على فعلته بنفسه ، على الرغم من أن الغلامين سألاه أن يشفقَ عليهما ويرحمَ صِغرَ سنهِما ، ليختارَ ماهو اكرمُ له عند الله من حرمةِ دمهِما ، ذلك ان يبيعَهما في السوق فينتفع من ثمنهِما او ان يقتادهما الى امير الكوفة لينظر في امرهما ، لكنه أبى واخذته العزةُ بالاثم ، فذبحهُما -كالخراف- واخذ برأسيهما الى أمير الكوفة بغضاً باهل البيت وطمعاً بالمال والجاه ، ولو كان كتابُ الله يشهد ببيان واضح :
(قل لا أسألُكُمْ عليهٍ أجراً الّا المودةَ في القُربى)..
* وانتهى الحال بهذا الوحش القاتل ان يلقى مصيراً بائساً فتُضربَ عنقُه في ذات المكان بقدرة الله الغالب حين يجعلُ بأسَ الظالمين فيما بينهم نكالا منه وخزيّاً لكل فاجرٍ عنيد..
فبعد ان ادلى بقصتِه واحتجَّ بها على ولائه لأمير الكوفة وهو يحملُ رأسي الغلامين جذلاً راجياً لجزيل العطاء..
قال له ابن زياد : وبعد.. ماذا فعل الغلامان بعد ان يئِسا من رحمتك ؟..
فقال صليا اربع ركعات ورفعا طرفيهما الى السماء وقالا : (ياحي ياحليم يا أحكم الحاكمين ، احكم بيننا وبينه بالحق)..
فقال ابن زياد : فانَّ احكم الحاكمين قد حكم بينكم ، فانتدب له رجلٌ من حاشيته وقال انطلقْ به الى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فاضربْ عنقَه..
* أمّا والدُ الغلامين وسفيرُ الامام الحسين (مسلم بن عقيل) فقد استُشهِد في التاسع من ذات الشهر سنة 60 هجرية وكان اول شهيد على نهج الثورة الحسينية ، ثم استُشهِد اخواهما محمد الاكبر وعبد الله في واقعة الطف مع الامام الحسين (ع) سنة 61 هجرية..
# فألا يمكن -والمأساة هذه- ان نعدّ هذا اليوم (الثالث والعشرين من ذي الحجة) مناسبة وطنية للتضامن مع ايتام الشهداء في العراق وما اكثرهم عددا وما اقسى ظروفهم اليوم..
ولافرق ان يكون هذا اليوم عراقيا عاما او خاصا -اذا لم تطب له كلُّ النفوس وكانت هناك رؤية أخرى..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق