الشاعر والواقع/مقالي المنشور في مجلة المرايا الادبية العدد 14 لسنة 2019- قراءة تحليلية لثلاث قصائد شعرية
في ضوء العلاقة الجدلية بين الفن والمجتمع وبين الشاعر وواقعه الاجتماعي ..اعرض هنا قراءة تحليلية لثلاث قصائد من الشعر العمودي للشاعر (طالب الفريجي) عن عراق المحن وبغداد الحزينة في ظل الاوضاع القاتمة المتتالية التي يمر بها العراق وشعبه منذ تسعينيات القرن الماضي حيث يحاكي مضمون القصائد وضع العراق وبغداد اليوم وشجون شعبه وماجرى عليهما من نوائب ونكبات وهي :
- (ماذا اصابك).. ياعراق
- (بغداد والغصة)
- (الحل في طوق النجاة)
وسنعرض ادناه القطع الشعرية الثلاث للشاعر (طالب الفريجي) ، وتحليلها بشكل موجز :
اولا : قطعة (ماذا أصابكَ)
1- لجمالِ حُسْنكَ تنحني الأقلامُ
وتدورُ عكْسَ مسارِها الْأيَّامُ
2- يأتي الْرّبيعُ إذا ظهرتَ بمبسمٍ
وتقومُ من أجداثِها الْإرمامُ..!
3- تهمي الغيومُ إذا نطقتَ بغيثها
وترفُّ في عليائها الأعلامُ...
4- ويغرِّدُ الحسّونُ أعذبَ لحنهِ
فوقَ الرُّبا تتعانقُ الأنغامُ....
5- وإذا عبسْتَ تفرُّ آسادُ الفلا..
ويموتُ في آجامهِ الضّرغامُ
6- والمثقلاتُ تفزُّ تطْرحُ حمْلها
من رحْمِها تتبرَّأُ الأرحامُ..!
7- ويسودُ صمْتٌ إنْ نطقْتَ بأحرفٍ
وإذا أشرتَ تهاوتِ الحوّامُ..!!
8- قل لي فكيفَ اليومَ ترفعُ عينَها
في مقلتيكَ وتضحكُ الأقزامُ..؟
9- ويَجوبُ ساحتَكَ اللصوصُ ليسرقوا
وتغضُّ طرْفكَ أيُّها الصّمصامُ....!
10-ماذا أصابكَ هلْ دَهوكَ بسحرِهِمْ
أمْ قدْ سقتكَ بكأسِها الأسقامُ !
11-أنْتَ الذي للثّائرينَ منارةٌ
وعلى الطُّغاةِ مهنَّدٌ وحسامُ
12- فاخلعْ قيودكَ ليسَ وقتَ تمارضٍ
فسماكَ للجدبِ المقيمِ غمامُ
-------------------------------------------
ثانيا : قطعة (بغداد والغصة)
1- أضْنى بكَ الشّوقُ أمْ أضنتْ بكَ المُقلُ
يا صاحبي لا تَسَلْ عنهمْ فقدْ رحلوا
2- كفْكفْ مآقيكَ لا تُظْهرْ مدامعَها.....
حزناً فلا يُرتجى منْ راحلٍ أملُ
3- واحْفرْ لحزنِكَ قبْراً والتحفْهُ بهِ
واجعلْ على شلوهِ الدّيدانَ تنتقلُ
4- أقْرأْ على روحهِ في الصّبحِ فاتحةً
فقدْ تواسيكَ تلكَ الغُمُّ والْعِللُ
5- واجْعلْ منَ الصّبرِ ذخراً تستعينُ بهِ
إنْ شحَّ دهركَ أو ضاقتْ بكَ السّبلُ
6- لا خيرَ بالعمْرِ إنْ أفراحهُ ترحٌ...!
لا خيرَ في عاقلٍ تقْتادُهُ الخُبلُ......!
7- لاخيرَ بالشّمسِ إنْ ضنَّ الغمامُ بها
لا خيرَ في عيشةٍ تجتاحُها الحِيَلُ
8- بغْدادُ يا زهرةَ الدّنيا وبهجتها.....
ما لي أراها بليلِ الحزنِ تغْتسلُ
9- وفرَّ من ليلِها العشّاقُ في وجلٍ
وقبْلُ ما سامهمْ نصْبٌ ولا وجلُ
10- بغداد يا دميةً ما زلتُ أعشقُها
وفي هواها فإنّي غارقٌ ثملُ
-----------------------------------------
ثالثا : قطعة (الحل في طوق النجاة)
1- لمّا بدتْ مثْلَ المهاةِ
وتسارعتْ كالعادياتِ
2- قلبي أحسَّ بطعْنةِ
نجْلاءِ تودي للمماتِ
3- ما بينَ موتتيَ الّتي
أمستْ كطوقٍ للنجاةِ
4- وقفتْ وكانَ وقوفُها
سيمرُّ عبْرَ النّائباتِ
5- والقلبُ زادَ أنينُهُ
لمّا رأى فعْلَ الجناةِ
6- فلقدْ أتتْهُ تسومُهُ
بينَ المذلّةِ والفواتِ
7- هيهاتَ يحنيَ رأْسَهُ
مولودُ منْ صلْبِ الأباةِ
8- عادتْ إليهِ بزيفها..
نفْسُ الوجوهِ الكالحاتِ
9- جاءتْ تجرُّ شنارها
عينُ البطونِ الجائعاتِ
10- لا ترتوي وشرابُها
منْ ماءِ دَجْلةَ والفراتِ
11- هيَ لنْ تفيئَ لرشدِها
أوْ تقْتفي أثر البُناةِ
12- والحلُّ يصدحُ عالياً
بيدِ الجموعِ الْغاضبات
#####################
تحليل قطعة (ماذا اصابك) :
-------------------------------
1- نلحظ في البدء ان هذه القطعة جميلة الاستهلال والخاتمة ولعل البيت الاول بجملته الوصفية والاخير بجملته الطلبية هما محورا مضمون القطعة..
ولم تخل ابيات القطعة من حسن التشبيه والاستعارة التي ظهرت في جمل شرطية اغنت الابيات بصور (الوصف الجميل للوطن)
اذا ظهرت بمبسم....ياتي الربيع
اذا نطقت بغيثها... تهمي الغيوم
اذا عبست... تفرّْ آساد الفلا ، وهكذا...
2- وردت مفردات لغوية في قطعة (ماذا اصابك) كست الابيات بوشاح مزخرف جميل ، ويناسب ايقاع القطعة وهي :
-طائر الحسون الصغير المغرد
-آجام الضرغام وهنا اختار الشاعر بيئة الاسد ذات الشجر الكثيف بدل عرينه لتناسب حروفها الست مع الايقاع
-المثقلات وهي النساء اللواتي تنوء بثقل حملها قبل الوضع
- الحوّام وهو طائر الفضاء كالنسر وغيره..)
3- يظهر النص في ثلاث سياقات فنية لغوية هي :
أ- جمل بيانية او وصفية رائعة من حيث التشبيه والاستعارة من البيت الاول الى البيت السابع :
(ويسودُ صمتٌ إن نطقتَ بأحرفٍ
وإذا أشرتَ تهاوتِ الحوّامُ)
وقد كان البيت الحادي عشر (قبل الاخير) هو محور هذه الابيات السبع وبؤرتها المركزية :
(انتَ الذي للثائرين منارةٌ
وعلى الطُّغاةِ مهنَّدٌ وحسامُ)
فكان هذا البيت بمثابة نواة لأبيات سبقته ترسم صورة من ذاكرة اوجعها حال النفس المشتت بين اشراق الوطن في الامس وغروبه اليوم ، ويمكن ان نقرأه بصيغة الاستفهام كأن النفس تتسائل :
الست انت الذي للثائرين منارةٌ**
وعلى الطغاة مُهنَّدٌ وحسامُ)
ب- جمل استفامية تعجبية توجع القلب في البيت الثامن والبيت التاسع المعطوف عليه :
(قل لي فكيف اليومَ ترفع عينَها**
في مقلتيكَ وتضحكُ الأقزامُ)
(ويجوبُ ساحتَك اللصوصُ ليسرقوا**
وتغضُّ طرفك ايُّها الصمصام)
ولعله ابلغ نداء يحمل عتب السنين والتساؤل..
ج- جملة طلبية وهي جملة الامر في البيت الاخير التي تعدّ غاية المضمون في القطعة :
(فاخلع قيودَكَ ليس وقت تمارضٍ
فسماك للجدبِ المقيمِ غَمَامُ)
وارى الافضل ان تكون الاداة (لات) لانها اكثر دلالة في التحضيض من (ليس) كأنك تقول :
(لات الوقتُ وقتَ تمارضٍ)
اما عجز البيت فكان الجملة فيه تحمل صورة الفخر المشوب بالحزن او لعلها تحمل غيض استفهام انكاري ، كأنك تقول :
مالك ياوطن ؟ اليست سماؤك كانت غماما للجدب المقيم.
4- القطعة على البحر الكامل ، ومن لطف الكامل انه اكثر البحور اضربا وايسرها نغما وانسبها في صور الفخر والعتاب..
البيت الاول جاء مصرعا بايقاع :
(متفاعلن متفاعلن متْفاعل) وهو سيحكم بالتالي الضرب في القطعة كلها..
فجاءت الابيات الاخرى بعروض الصدر : (متفاعلن) وضرب العجز (متْفاعل)..
مثل اقلامو ، ايامو، ارمامو ، اعلامو..
والضرب -هنا- مقطوع مضمر من تفعيلة (متَفاعلن) ليكون هكذا بعد حذف نون الوتد المجموع (علن) واسكان لامه مع تسكين الحرف الثاني (التاء).
وورد في حشو البيت الاضمار لتفعيلة متفاعلن ليكون متْفاعلن او يكتب مستفعلن..
*************************
تحليل قطعة (بغداد والغصة)
--------------------------------
1- ثيمة قطعة (بغداد والغصة) هو ذلك الاسى الخانق بزبد الصدر يتقد من وجدان يضطرم بنار الغيض والحسرة ، والحال ان الشوق عندما يشب جوىً ويمتد مدى البوح بعيدا في الافق فلا سبيل غير ايقاع البحر البسيط ليعلل النفس ويحكي شجونها..
2- اللاءات الاربع طرزت القطعة بجميل العبر لتفصل بين ابيات الطلب الاربع السابقة التي تحمل حرّ الغيض والجوى
(كفكف/واحفر /اقرأ / واجعل..)
وبين بوح اكثر سكينة في الابيات الثلاث الاخيرة ، لأنه يحمل في النهاية عتب المحبين المتعبين من جهد نجواهم ونار شوقهم :
- بغْدادُ يا زهرةَ الدّنيا وبهجتَها...
- وفرَّ من ليلِها العشّاقُ في وجلٍ..
- بغداد يا دميةً ما زلتُ أعشقُها..
3- وردت في البيت الثالث جملة (والتحفهُ بهِ) حيث يرد ضمير الهاء مرتين ، مفعولا به وفي محل جر ، ولعله يعني (والتحف الحزن بالقبر) او لربما يكون للهاء صلة بالراحل؟
ولتجنب التكرار في ضمير الصله ارى من الانسب ان نقرأ البيت بالصورة التالية :
واحفرْ لحلمِكَ قبراً والتحفْهُ اسىً
واجعلْ على شلوهِ الديدانَ تنتقلُ
كما نلحظ ان الشاعر استخدم مفرد اشلاء (شلو) لتتسق مع الايقاع مع انها اقل شيوعا من الجمع اشلاء..
4- القطعة من البحر البسيط -كما ذكرت-
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
ويجوز فيه خبن فاعلن (حذف الثاني الساكن) فتكون فعلن كما هو الحال البيّن في عروض الصدر وضرب العجز من القطعة (التفعيلة الاخيرة للصدر والعجز )..
امّا الشائع في مستفعلن فهو ادخال الخبن لتكون متَفْعلن وتكتب مفاعلن ، او ادخال زحاف الطي احيانا (حذف الرابع الساكن) لتكون مسْتَعلن وتكتب مفْتعلن.
لنلحظ تقطيع البيت الاول والثاني :
1- اضْنى بكشْ/ شوْق أمْ/ أضْنتْ بكلْ/ مقلو
مستفعلن/ فاعلن/مستفعلن/فعلن
يا صاحبي/ لاتسلْ/ عنهمْ فقدْ/ رحلو
مستفعلن/فاعلن/مستفعلن/فعلن
2- كفْكفْ مأَاْ / قيْك لا /تظْهرْ مدا /معها
مستفعلن/فاعلن/مستفعلن/فعلن
حزْننْ فلا/ يرْتجى/ منْ راحلنْ/ أملو
مستفعلن/فاعلن/ مستفعلن/ فعلن
*************************
تحليل قطعة (الحل في طوق النجاة)
------------------------------------------
قطعة (الحل في طوق النجاة) يغلب عليها الصنعة الفنية في الصور التي لا يُصَرح فيها بالمشبه ، وفي ايقاع القطعة كذلك..
ولعل مفاتيح الجمال في القطعة يكمن في المواضع التالية :
1- القطعة لا تكشف بشكل مباشر عن مضمونها السياسي لكنها تترك للقارى صورا وصفية في اربع ابيات تضع يده على المضمون :
- الوجوه الكالحات...في البيت الثامن
- البطون الجائعات...في البيت التاسع
- لاترتوي وشرابها من ماء دجلة والفرات.. في البيت العاشر ، وهو استفهام انكاري رائع
- وهي لن تفئ لرشدها...في البيت الحادي عشر
2- لايرتبط العنوان بالبيت الثالث وان احتوى العنوان شكلا (مابين موتتيَ التي امست كطوق للنجاة) بل يرتبط بالبيت الاخير :
والحلُّ يصدحُ عاليا بيد الجموع الغاضبات)
اذ جعل الشاعر طوق النجاة بيد الجموع الغاضبة وبقرارهم بما يحفظ حقوقهم ومستقبل بلدهم واجياله..
3- وردت استعارة في البيت الاول من اجمل مايكون في القطعة وهي استعارة تصريحية لا مكنية اذ حذف فيها المشبه (وجوه الزعامات حين بدت اول مرة) واستعير عنها بلفظ المشبه به (المهاة : الشمس ، العاديات : الخيول المغيرة)..
كما تحمل في ذات الوقت معنى السخرية الذي يتضمن (الذم بصيغة المدح) لان الوجوه ماكانت الا مخادعة اذ بدت عكس ما كانت تضمر !! فهي ليست -في حقيقتها- من الشمس في شيء..
ويكفي ان نلحظ ان الكاتب في كل ابيات القطعة قصد ان لا يذكر المشبه الا استعارة وتشبيها وصفة..
وحال الاستعارة هنا يشبه قولك (اسدٌ علي وفي الحروب نعامة) حيث حذف المشبه وهو المخاطب بالجملة..
4- في ايقاع القطعة :
نلحظ ان الشاعر اختار مجزوء الكامل وهي قريب جدا من مجزوء الرجز ، لكنه اجمل ايقاعا منه..
(متفاعلن متفاعلن.........متفاعلن متْفاعلان)
ورد في اول التفعلية جواز الاضمار لتكون متْفاعلن او كما تنقل (مستفعلن).
وورد في العروض (أخر صدر البيت) متفاعلن..
وفي الضرب (آخر العجز) ورد متفاعلن مذيلا مضمرا فكان متْفاعلنن وينقل الى متْفاعلان ويكتب مستفعلان ايضا.
------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق