اسس التجديد في فكر الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر
اسس التجديد في فكر الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر :
من المناسب -ونحن نمر (اليوم 4/9) على ذكرى شهادة الامام السيد محمد باقر الصدر-
ان نتأمل ونبحث قدر معرفتنا على اجابة للتساؤل التالي :
ماهي اسس ومواضع التجديد التي جعلت فكره خلاقا ومحل تقدير من جميع المفكرين والاكاديميين ورجال الدين بشتى اتجاهاتهم الفلسفية والفكرية حتى من الذين اختلف معهم في الرؤية العامة او المنهج الفلسفي والاقتصادي..؟؟
من المؤكد ان الجواب الشافي يتطلب كتابا متوسط الحجم من ثلاث ابواب في الاقل يحتوي كل باب على عدد من الفصول حسب العرض ورؤية الباحث والتبويب الذي يغطي الموضوع ، كما تتطلب الاجابة جهدا ووقتا متيسرا سيّما اذا رجعنا الى اصول الفكر الفلسفي الغربي الحديث منذ القرن الثامن عشر والذي عرضه السيد الشهيد الصدر في القسم الاول والثاني من كتابه فلسفتنا..
** وساقتصر في هذه البحث الموجز على :
ذكر الاسس العامة التي توضح الفكرة وتفتح سبيلا للاجابة الواضحة والكاملة..
************************************
اولا - المشروع الفلسفي :
في ضوء تطور الفكر الفلسفي الحديث في الغرب منذ عصر النهضة في القرن الثامن عشر واندلاع الثورة الصناعية والتي جددت ووسعت مباحث الفكر الفلسفي التي سادت عصر الحضارة اليونانية والعصر الوسيط المسيحي ثم الاسلامي حيث تعددت المدارس الفلسفية برؤى جديدة بعد تطور العلوم والمعارف وتكاملت في القرن العشرين فأنجبت مذاهب فلسفية منها المثالية لهيجل والعقلية لكانت والمادية لماركس والتحليلية لبرتراند رسل والروحية لبرجسون والظاهراتية لهوسرل والوجودية لسارتر والبنيوية لشتراوس..الخ ، كما نشطت حركة الترجمة والتأليف والتاثير في الشرق الاسلامي..
في ضوء ذلك شغل الامام الصدر فكرة تجديد الموروث الاسلامي في الفلسفة والاقتصاد والاجتماع ، مع تجديد مناهج علوم الدين والتفسير السائدة في الدراسات الجامعية والحوزوية..
وكانت قد جرت محاولات طيبة في هذا المجال لكنها كانت محدودة وغير فاعلة ، ولهذا اراد السيد الشهيد ان يضع رؤية فاعلة متكاملة في التجديد الفكري..
فبحث اولا - في ضوء المعارف الحديثة - عن اللقاء المشترك بين المنهجين العقلي والمادي في المعرفة وبيّن ذلك في مرحلتين :
أ- فطوّر اولا مفهوم الاستقراء في المنهج العقلي باتجاه كشف الاساس المنطقي بين العلوم الطبيعية والفكر الفلسفي وهو منهج تطبيقي يتجلى في الانجازات الحديثة بعلوم الفيزياء والكيمياء العامة والحياتية ، كما انه احد طرق الاستدلال للأحكام في منهج اصول الفقه..
حيث وجد السيد الشهيد -كما هو واقع- ان كل الاكتشافات العلمية منذ القرن السابع عشر ما وجدت الاّ بسبب الاستقراء وقد تبناه في ذلك الوقت الفيلسوف الانكليزي بيكون..
وهو احد الطرق المنطقية في (الحصول على المعلومة العامة من معلومة خاصة)..
فعندما تقول عل سبيل المثال :
(ان تلك النار تحرق يدي) فهذا يعني ان (النار تحرق بشكل عام)..
وهو طريقة منطقية اوسع مدى من (الاستنباط) في التطبيق العلمي والفلسفي في الوصول الى اكتشافات جديدة ونوعية ، لان الاستنباط هو الحصول على معلومات خاصة من معلومة عامة صحيحة كأن تقول (كل البشر هالكون ، وبما ان زيد من البشر ، فهذا يعني ان زيد هالك لامحالة)
وعلى الرغم من ان للاستباط دور كبير في علم الرياضيات ونلمسه بوضوح في الهندسة وحل المعادلات المعقدة حيث نستنبط مثلا نظرية هندسية من بديهيات صحيحة لكنها لاتقودنا الى معلومة جديدة عامة ، على حين يكون للاستقراء تطبيق عملي اوسع في علم الطبيعيات والاحياء والكون المادي كما يمكن ان يؤدي الى معلومة ورؤية عامة جديدة وان كان الاستقراء يحتمل الخطأ اكثر من الاستنباط..
ويعتمد الاستقراء على الملاحظة والتجربة ويحدد مفهومه آلية الفرق بينهما كون الملاحظة هي مشاهدة الموجود في الطبيعة على صورته الموجودة ، والتجربة هي مشاهدة المقصود او المطلوب في ظروف يهيئها الشخص المستقرئ بالكيفية التي يريدها..
والاستقراء قسمان : هما الاستقراء التام: هو تتبع جميع جزئيات الكلي المطلوب معرفة حكمه ، والاستقراء الناقص: وهو تتبع بعض جزئيات الكلي المطلوب معرفة حكمه.
وقد كتب السيد الشهيد في ذلك كتابين هما (رسالة في المنطق) وكتابه المعروف (الاسس المنطقية للأستقراء)
وللتوسع في بحث مفهوم الاستقراء عند المفكر الشهيد الصدر يمكن مراجعة دراسة (الشهيد الصدر ومسألة الاستقراء) للدكتور (يحيى كبير) وهي من الدراسات الرصينة على الرابط التالي :
http://nosos.net/الشهيد-الصدر-و-مسألة-الاستقراء/
ب- بعد ان حدّث وتوسع المفكر الشهيد الصدر في بحث مفهوم الاستقراء ، بحث فيما بعد عن الخط او الفضاء المشترك بين المنهج العقلي الاستقرائي والمعطيات المادية في المعرفة فأعد دراسة معمقة في الفكر الفلسفي الحديث المثالي والمادي توجت بكتابه المعروف (فلسفتنا) عرض فيه المفاهيم الفلسفية الحديثة والمعاصرة ومنها الاتجاهات المتصارعة في الميدان الفكري ، فقدم في القسم الاول تمهيدا فلسفيا وخصص القسم الثاني لبحث نظرية المعرفة وعرض في القسم الثالث المفاهيم الفلسفية الفاعلة في العالم..
واستعرض في التمهيد المذاهب الفكرية الرئيسية السائدة في العالم والتي تبنت رؤية فلسفية شاملة ومنهجا في الاقتصاد السياسي وشكلت انظمة متصارعة : نظام اشتراكي- نظام شيوعي -نظام رأسمالي -نظام اسلامي وكشف بقراءة المفكر الفذ طبيعة هذه الانظمة وآثارها الاجتماعية والاخلاقية..
وعرض في القسم الثاني نظريات المعرفة بمسح واسع دقيق :
- نظرية الاستذكار الافلاطونية/النظرية العقلية/النظرية الحسية/نظرية الانتزاع
-مناهج الفكر العقلي/والتجريبي السائد في المدرسة الماركسية .
وكشف هنا ان المقياس الاول هو (المعلومات الاولية العقلية) مثل حاجة الهندسة في الرياضيات الى البديهيات العقلية ، لذا فان التجربة ذاتها بحاجة الى المقياس العقلي، واوضح ان للتجربة فضل كبير في خدمة العلوم الطبيعية لكنها ليست المقياس الاول للأفكار والمعارف الانسانية المتغيرة..
كما اشار الى مفهوم آخر للواقعية اسماه (المفهوم الواقعي الالهي) ليكون ممثلا للفكر الاسلامي الفلسفي الحديث..
وبيّن انه مفهوم لايلغي مبدأ العليّة (السببية) في الطبيعة - كما هو شائع خطأً - بل يعتمده مع بطلان التسلسل اللانهائي في السببية عقلا ، فالسبب الاعلى (الخالق) هو الحقيقة المطلقة الوحيدة..
كما اشار الى الخطأ الشائع في اعتبار تطور العلوم مصداقا للحركة التطورية في الحقائق والمعارف :
(فالعلوم تتطور لابمعنى ان حقائقها تتجدد وتتكامل بل ان حقائقها تزداد وتتكاثر واخطاءها تقل وتتناقص)..
وهذا يعني ان معطيات العلوم الطبيعية في بنية وتركيب المادة والحركة والتطور قد تصل الى درجة الحقيقة في العالم الطبيعي لكنها ليست حقيقة مطلقة لانها تبدأ بالاصل من واقع المادة المنظورة بصورتها الطبيعية الموجودة وخصائصها الفيزيائية والكيميائية ونسبية حركتها وتطورها.. ، وبأعتبار العالم الخارجي اوالموضوعي مستقل عن التصور..
واوصلنا الى حكمة مقولته :
(ان الطبيعة صورة فنية رائعة والعلوم الطبيعية هي الادوات البشرية التي تكشف عن الوان الابداع في الصورة وتموّن الوجدان البشري العام بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدبر الحكيم)
وان كون المادة والحركة في حالة تلازم وتطور لايمنع او يلغي الادراك العلمي عن الاقرار والايمان (بخالق للكون والحياة)في ضوء منهج استقرائي عقلي .
ولكي نقرب هذه الفكرة في ضوء معطيات العلوم : نلحظ ان النظام المتشكل مع المادة او المفروض على المادة هو ابلغ اثرا من وجود المادة نفسها ، ففي الكيمياء -مثلا- نعرف ان ذرتي هيدروجين وذرة اوكسجين لاتشكل جزيئة ماء الاّ في ظروف كيميائية معينة من احتراق ترافق التفاعل والتآصر التساهمي بينهما H----O-----H .
وفي الفيزياء نعرف ان ظاهرة شذوذ تمدد الماء بين درجتي الصفر المئوي… ودرجة 4 مئوية هي التي حفظت الحياة المائية في البحار والانهار..
وكذلك الحال فأن دوران الارض بدرجة مائلة بزاوية 22.5 عن محورها العمودي الواصل بين القطبين هي التي جعلت الفصول الاربعة تتناوب على الارض وتختلف ساعات الليل والنهار لتستمر الحياة وتتنوع في الارض . ومن جهة اخرى فلولا الغلاف الغازي الذي يحيط الكرة الارضية بوظائف طبقاته المتتالية من طبقة التروبوسفير الى طبقة الاگزوسفير ومنها طبقة الاوزون الموجودة الموجودة ضمن طبقة الستراتوسفير الوسطية التي تمنع الاشعة الكونية الضارة ومنها الاشعة فوق البنفسجية ، وطبقة المزوسفير التي تحترق فيها الشهب والنيازك وتعمل كدرع واق للأرض..
لولا ذلك.. لما امكن الحياة على كوكبنا الازرق الجميل..
وان وجود هذا النظام الدقيق حتى في شذوذه الفيزيائي احيانا هو الذي حفظ المادة وجعلها بصيرورة وخصائص فاعلة ومنتجة وقابلة للحياة هو الذي يقودنا الى الايمان بوجود نظام اعلى للكون هو الخالق العليم الحكيم الذي لانراه لكننا نؤمن به بفطرتنا وعقلنا ونستدل عليه بآثاره في نظام الكون والحياة العجيب ، كما اننا لانرى الجاذبية الارضية ولانرى الاشعة فوق البنفسجية والراديوية ولانرى الالكترونات في التفاعلات الآيونية والتساهمية ، بل نعرفها بآثارها لنؤمن بوجودها وهي من معطيات الخلق والحياة..
************************************
ثانيا - المشروع الاقتصادي :
1- بعد انجاز مشروعه الفلسفي في تحديث المنطق العقلي في ضوء معطيات العلوم وعرض المفاهيم الفلسفية للعالم ومن ثم عرض وتأصيل فكر فلسفي اسماه (المذهب الواقعي الإلهي) يعتمد منطق الاستقراء ويتصل بمعطيات العلوم الطبيعية ولايتناقض معها في النظرة الى الطبيعة وقضية الخلق والوجود..
بعد ذلك توجه المفكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر لعرض مشروعه الفكري في الاقتصاد .
فكتب دراستين هما : كتاب اقتصادنا ، وكتاب البنك اللاربوي في الاسلام في ضوء قضيتين اساسيتين تصدران الواجهة في واقعنا المعاصر وهما
أ- الصراع بين النظام الرأسمالي المعروف بنظام الاقتصاد الحر واطلاق الحريات الفردية في الولايات المتحدة واوروبا الغربية ، وبين النظام الاشتراكي في خطه الشيوعي الماركسي المعروف بأسم (الاشتراكية العلمية) الذي ساد الاتحاد السوفييتي واوروبا الشرقية والصين وكوبا ودولا في شرق آسيا ناهيك عن وجود الاحزاب الشيوعية في اغلب دول العالم..
ب- عدم وضوح معالم الاقتصاد الاسلامي في الموروث الفكري بشكل منهجي واضح..
*في ضوء ذلك ، وضع المفكر الشهيد الصدر نصب عينيه للبحث عن منهج وسطي لنظام اقتصادي اسلامي حديث يتجاوز الآثار الاجتماعية السلبية للنظامين الرأسمالي والاشتراكي الماركسي ويتوافق مع معطيات الشريعة الاسلامية..
فكان كتاب (اقتصادنا) مشروعا في تأسيس رؤية اقتصادية اسلامية حديثة..
وكتب الامام المفكر الصدر كتاب (البنك اللاربوي في الاسلام) اطروحة للتعويض عن الربا ودراسة نشاطات البنوك الممكنة في ضوء الفكر الاسلامي ، وكان بالواقع قد شرع في كتابته بناء على دعوة المشرفين على مشروع بيت التمويل الكويتي ليكون اول مصرف اسلامي بواجهة غير ربوية..
2- يوضح المفكر الشهيد الصدر في بداية مشروعه المعرفي الاقتصادي : (المعنى الاصطلاحي) للاقتصاد الاسلامي وماهية الفرق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي وبين الاقتصاد الاسلامي والاقتصاد السياسي..
أ- علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي :
يشير المفكر الشهيد الصدر -هنا- ان الاقتصاد الاسلامي ليس علما اجتماعيا قائما بذاته شأن علم الاقتصاد الحديث بما يجعلنا في غنى عنه..
لكن الامر يتطلب ان يكون هناك تفاعلا بين التفكير العلمي والتفكير المذهبي..
ويقول في ذلك : ان (علم الاقتصاد يتناول تفسير الحياة الاقتصادية واحداثها وظواهرها وربط تلك الاحداث والظواهر بالاسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها..)
واما (المذهب الاقتصادي فهو عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العلمية) وعلى هذا الاساس يصل بنا الى النتائج التالية في العلاقة بين مفاهيم علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي حيث يقول :
-- اننا (لايمكن ان نتصور مجتمعا دون مذهب اقتصادي لان كل مجتمع يمارس انتاج الثروة وتوزيعها لابد له من طريقة يتفق عليها في تنظيم العمليات الاقتصادية )
-- ويعتمد المذهب الاقتصادي على خلفيات البنية الاجتماعية - السياسية والاخلاقية للمجتمع التي تطورت في مسار تاريخه الحضاري العام ، وفي ظل ذلك يقول المفكر الشهيد الصدر :
(لاشك ان اختيار طريقة معينة لتنظيم الحياة الاقتصادية ليس اعتباطا مطلقا ، وانما يقوم دائما على اساس افكار ومفاهيم معينة ذات طابع اخلاقي او علمي او اي طابع آخر )
ب- الاقتصاد السياسي والاقتصاد الاسلامي : الاقتصاد السياسي يعنى بدراسة نشاط الانسان في كافة الفعاليات الاقتصادية وادارة الموارد النادرة وطرق تحويلها لما ينفع الفرد والمجتمع ، كما يدرس علاقات الافراد فيما بينهم او مايعرف اصطلاحا (علاقات الانتاج)..
كما يُعدّ علما حديثا في فن الحصول على ايرادات للدولة لتحقيق الرفاهية المادية لافراد المجتمع بالحصول على السلع والخدمات والاموال ، وقد نشأ هذا العلم مع ظهور عصر الرأسمالية وتطور الفكر الاجتماعي والاقتصادي بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ونشاة الفكر الماركسي وتطوره..
ويضم علم الاقتصاد السياسي - في نطاقه - دراسة المذاهب الاقتصادية لكونها طرقا للتفكير الاقتصادي في الانتاج والتوزيع..
وان احد هذه المذاهب الاقتصادية هو الاقتصاد الاسلامي ، وهو بهذا المعنى ليس فرعا اقتصاديا علميا بديلا عن مفاهيم الاقتصاد السياسي ومجال ابحاثه وذلك لكون الاسلام بالاصل هو :
(دين دعوة ومنهج حياة وليس من وظيفته الاصلية ممارسة البحوث العلمية)
وهذا ما يشير الى ذلك المفكر الشهيد الصدر في مقدمة كتابه (اقتصادنا)..
وان تعريف الاقتصاد الاسلامي في ضوء ذلك وكما يقول المفكر الشهيد :
(هو المذهب الاقتصادي الذي تتجسد فيه الطريقة الاسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية بما يملك هذا المذهب من افكار الاسلام الاخلاقية والافكار العلمية الاقتصادية او التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد الاسلامي او بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية)
ويضرب السيد الشهيد الصدر امثلة واضحة تكشف بشكل واضح المعنى الاصطلاحي للاقتصاد الاسلامي :
* (فحينما نريد أن نعرف مثلاً : رأي الإسلام من الناحية العلمية في تفسير قيمة السلعة وتحديد مصدرها ، وكيف تتكون للسلعة قيمتها؟ وهل تكتسب هذه من العمل وحده أو من شيء آخر؟
يجب أن نتعرف على ذلك من خلال وجهة نظر الإسلام المذهبية إلى الربح الرأسمالي ، ومدي اعترافه بعدالة هذا الربح.)
* (وحينما نريد أن نعرف: رأي الإسلام في حقيقة الدور الذي يلعبه كل من رأس المال ووسائل الإنتاج والعمل في عملية الإنتاج... يجب أن ندرس ذلك من خلال الحقوق التي أعطاها الإسلام لكل واحد من هذه العناصر في مجال التوزيع ، كما هو مشروع في أحكام : الإجارة، والمضاربة، والمساقاة،
والمزارعة، والبيع، والقرض .
* (وحين نريد أن نعرف: رأي الإسلام في نظرية مالتوس عن زيادة السكان ، يمكننا أن نفهم ذلك في ضوء موقفه من تحديد النسل في سياسته العامة)
ومالتوس هو اقتصادي انجليزي عاش في القرن التاسع عشر وكان قد ادخل عنصري الزمن والحركة في دراسة الفعاليات الاقتصادية ويقول في نظريته ان زيادة السكان تحصل على شكل متوالية هندسية على حين تحصل زيادة المواد الغذائية على شكل متوالية عددية ويؤدي هذا الاختلال الى المجاعة والامراض والاوبئة..
ولا مناص اذن لاستمرار الحياة الا بتحديد النسل..
ولتوضيح ذلك علينا ان نعرف اولا مدى الفرق بين المتوالية العددية والهندسية ، ولناخذ المثال ادناه ونعتبر على سبيل الفرض ان الحد الاول للمتوالية هو 2 وثابت المتوالية هو 3 .
فالمتوالية العددية ستكون :
2 ، 5 ، 8 ، 11 ، 14……..الخ باضافة ثابت المتوالية (3) لاي حد لايجاد الحد اللاحق
اما المتوالية الهندسية فستكون :
2 ، 6 ، 18 ، 54 ، 162…… الخ بضرب ثابت المتوالية (3) في الحد السابق لايجاد الحد اللاحق.
* ويقول كذلك (إذا أردنا أن نستكشف: رأي الإسلام في المادية التاريخية وتطورات التاريخ المزعومة فيها ، يمكننا أن نكشف ذلك من خلال الطبيعة الثابتة للمذهب الاقتصادي في الإسلام ، وإيمانه بإمكان تطبيق هذا المذهب في كل مراحل التاريخ التي عاشها الإنسان منذ ظهور الإسلام..)
3- وهكذا يمكن في ضوء الكتابين المذكورين استنتاج المبادئ العامة التي تؤطر الفكر الاقتصادي الاسلامي الحديث وهي :
أ- اعتماد (النهج الوسطي) في ادارة اقتصاد الدولة والمال العام والملكية..
فلا يقر هذا النهج بالملكية المطلقة لوسائل الانتاج من قبل الدولة في النظام الاشتراكي الماركسي التي تقيد حرية الفرد ونشاطه الاقتصادي والاجتماعي وميوله الفطرية في الحدود المشروعة انسانيا وشرعيا..
كما لابعتمد شكل الاقتصاد الرأسمالي في الملكية الفردية المطلقة التي تصل الى حد امتلاك ما في باطن الارض المملوكة من معادن و خامات..
والتي تؤدي الى تراكم راس المال بيد الشركات الكبرى والتحكم بفرص العمل بما يجعل البطالة ظاهرة دورية ، مع خلق طاهرة التضخم الذي ينعكس سلبا على القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود ، ويوفر بيئة للاحتكار تجعل بعص الشركات تعبر حدود الوطن بتشكيلات متعددة الجنسية تتحكم بقوت الناس واقتصاد الدول ، وهو ذات الحال المتاح في الوقت الحاضر للبنوك الدولية..
ب- وفي ضوء ذلك فان الاقتصاد الاسلامي ياخذ النهج الوسطي الذي يقر بملكية مزدوجة هي الملكية العامة للدولة وبضمنها الموارد الطبيعية والطاقة والتي تعود بالنفع العام ، والملكية الفردية الخاصة المحدودة..
كما يعتمد احكام المعاملات في الفقه سيما في باب التجارة وريع الاراضي واحكام المال بما يتفق مع ثوابت الدين والشريعة الاسلامية..
فالاسلام يقر-اصلا - من حيث المبدا بالارث والملكية الفردية المحدودة لنشاطات اقتصادية وتجارية غير احتكارية ولاطفيلية تصب في خدمة المجتمع..
ويترتب عليها في الاقتصاد الحديث عوائد ضريبية وتعرفة كمركية وتخضع للقانون والرقابة وفي اطار نظام من عدالة اجتماعية وتامين صحي وغذائي يقر بقانون تجاري هو بالواقع جرء اساسي من قانون مدني عام يأخذ بنظر الاعتبار احكام المعاملات الاسلامية وغايتها الاساسية في ضمان حق الافراد المتكافئ بالحياة والفرص وبما يقلل الفوارق الاجتماعية ويعالج قضيتي البطالة والفقر..
ولأن الاسلام يعتبر الملك لله بصورة عامة ، فأن الانسان يعدّ -بالتالي- مالكا وسيطا للمال في الارض ومؤتمن عليه ، وان هناك حقوقا عامة على مالك المال خصّها الاسلام بالتشريع ، وبالتالي فان سحب يده من المال قائما اذا ساء استخدامه..
ويشير المفكر الشهيد الصدر في هذا الصدد
(ان ماكان ملكا للمنصب الالهي في الدولة فهو ملك للدولة ولمن يشغل المنصب اصالة او وكالة التصرف فيه)
ت- اعتماد مفهوم الاقتصاد المخطط ، فالاسلام يؤكد حاجة الانسان بان ينظم اعماله ويراجع سلوكه وحقوق الله والناس عليه..
فالتخطيط الاقتصادي حاجة انسانية لدراسة نشاطات المجتمع والنهوض بقطاعاته وتنويعها وتوزيع الدخل بما يؤمن العيش الكريم والاكتفاء الذاتي، وتحقيق التوازن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية..
ج- يعتمد الاقتصاد الاسلامي نظاما لاربويا في حركة رؤوس الاموال وعمل المصارف ، حيث يربط نمو رأس المال بعائد الفعاليات الاقتصادية فلا يجعل من راس المال الثابت امكانية مجردة للنمو اي ان (المال لايربو بذاته) ، وهذا يعني ان راس المال المتحرك الذي يدخل في الفعاليات الاقتصادية (الانتاجية والتجارية) النافعة للانسان والمجتمع تكون فائدته متغيرة حسب الظروف والجدوى الاقتصادية ، وستكون. بالتالي مشروعة وبناءة..
ث- يعتبر تفعيل دور النقابات المهنية للعمال مشروعا لدورها في الرقابة ورعاية حقوق الكوادر العاملة ومعرفة المشاكل في العلاقات الانتاجية والتي تساعد في سن وتعديل القوانين والتعليمات التي تومن الحقوق الاجتماعية وتمنع الاستغلال وتوفر الضمان الصحي والمعاشي للعمال في مختلف القطاعات..
************************************
ثالثا : التجديد في الدراسات الدينية ودور الحوزات العلمية :
جهد الامام المفكر الصدر واضعا نصب عينيه على قضية (التحديث المنهجي العلمي للدراسات الدينية) بما يجعل طالب العلم الذي سيكون رجل دين وحجة للاسلام والمسلمين ملما بمعارف واسعة تتصل بالقديم والحديث في مناهج الدراسات الدينية الحوزوية في :
(الدرس الفقهي واصول الفقه والفلسفة والمنطق واللغة والتفسير وعلوم القرأن والحديث والعقائد والتأريخ..)
ويمكن حصر مواضع التحديث في الدراسات الحوزوية التي وظّفها الامام المفكر في ابحاثه باربعة مرتكزات اساسية هي تجديد ابحاث علم الاصول ،درس الفلسفة والمنطق ، والتفسير القرأني ، واهتم من ناحية اخرى بقضية محورية شغلته وميّزته كأمام ومفكر وهي تفعيل دور الحوزات العلمية في واقع المجتمع وما يجري فيه من نشاط الفكري وصراع ثقافي سائد في ميادين الفكر العلماني في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد ، وان تكون هناك (مدرسة اسلامية) فكرية واضحة الرؤية والمنهج تواكب التطور الفكري الانساني والمذاهب الفكرية الكبرى ذات الفضاء الشمولي في الفكر الفلسفي والاقتصاد السياسي والاجتماعي والتربوي
وكان الامام المفكر الصدر رائدا في ذلك واضعا نصب عينيه ان لايعزل الحوزات العلمية عن واقع المجتمع والحياة وصراع الافكار والثقافات..
ولقد ترجم الامام المفكر الصدر هذه القضايا التي شغلته في تحديث الدرس الديني وتفعيل دور الحوزة العلمية بآثاره الفكرية مع مواقفه المبدئية وصلابته التي دفع فيها حياته شهيدا كريما حيّا عند الله وفي ضمائر الاحرار وسفر التاريخ ، ومن اعماله المطبوعة :
أ- كتب الامام الشهيد الصدر دراستين في علم الاصول هما :
(المعالم الجديدة للاصول) و (دروس في علم الاصول) في جزئين لتحديث وتهذيب هذا المنهج صعب المراس والذي يعد اداة الفقيه المجتهد في استنباط الاحكام الفقهية..
كما كتب الامام المفكر الصدر كتابا آخرَ في علم الاصول من عشرة اجزاء طبع منها جزء واحد هو (غاية الفكر في علم الاصول)…
ب- كتب الامام المفكر الصدر بحثا في (الاسس المنطقية للاستقراء) ، وكتب في بواكير اعماله (رسالة في المنطق) لياخذ هذا الدرس باتجاه يوثق عرى العلاقة بين الفكر الفلسفي والعلمي والمنطق الاستقرائي .
وقد اشرنا لهذا البحث بشيء من تفصيل في القسم الاول الخاص (بالمشروع الفلسفي للمفكر الامام الصدر) ويمكن الاطلاع على المزيد في موضوع الاستقراء على الرابط التالي وهو اوسع وايسر بحث :
http://www.elibrary4arab.com/ebooks/manteq-w-falsafa/manteq-alfadly/esteqraa.htm
ت- المدرسة الاسلامية :
كتاب يشرح بشكل ميسر القواعد الاساسية لمنظومة الفكر الاسلامي في الاجتماع والاقتصاد والسياسة المقابلة للتنظير الفكري للمذهبين الرأسمالي والاشتراكي الماركسي، وقد كتبه الامام المفكر الصدر في حلقات بعد كتابيه (فلسفتنا واقتصادنا) ليكون القاعدة الاساس لمشروعه الفلسفي والاقتصادي وصاغه بصورة سلسة ليكون هيكلا اساسيا يسهل للقراء والشباب الاطلاع وادراك الافكار الرئيسية من وجهة النظر الاسلامية وكذلك التمهيد لقراءة الكتابين وفهم القضايا المعروضة فيهما..
ث- المدرسة القرآنية :
وهو بحث حديث ورصين في التفسير الموضوعي للقرآن بما يجدد منهج الدرس القرآني ويجعله متصلا بشكل اقرب بمشاكل الانسان المعاصر وقضايا المجتمع الحديث المتنوع ، وان لايتوقف التفسير عند العرض البياني والمدلول الفقهي والتفسير الشكلي والتأريخي للنص القرآني..
ج-كتب الامام الشهيد الصدر دراسة استدلالية في اربعة اجزاء بعنوان :
(بحوث في شرح العروة الوثقى للعلامة محمد كاظم اليزدي) التي تعد اساس الرسائل الفقهية بحيث يمكن وصفها بالمعطف الذي خرجت منه اكثر الرسائل العملية في العبادات والمعاملات..
وتعدّ دراسة الامام المفكر الصدر مصدرا علميا غنيا للدراسات الاستدلالية في مسائل فقهية وخلافية من ناحية العرض وطريقة التناول والتبويب..
وللامام الشهيد الصدر رسالة علمية في فقه العبادات والمعاملات بعنوان (الفتاوي الواضحة) وقد طبعت اول مرة في اواخر عقد السبعينيات..
* اخيرا ، فان ماكتبته هنا ليس الا مدخلا او مقدمة تصلح لكتاب يتناول تفاصيل القضايا المعروضه في المشروع الفلسفي والاقتصادي بشكل موسع لنعرف ماهية فكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر مع اصول الفكر الفلسفي والاقتصادي الذي تناوله الامام الشهيد بالبحث..
اما قضية القسم الثالث الخاص بتحديث الدرس الديني والحوزوي في علم الاصول والفقه والتفسير فله شأن علمي يخص علماء الدين واساتذة الحوزات العلمية الافاضل وهم اجدر في بيانه والاحاطة به..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق