اشكالية تدوين التاريخ العربي الاسلامي بالمقارنة مع النموذج الاوروبي
هذه محطات في الموضوع نقف فيها بعض الشيء على رؤية المؤرخ العربي في تدوينة الاحداث والافكار ومظاهر الحضارة بين الذاتية والموضوعية ، بين الامانة والتزييف ، بين الوضوح والضبابية :
1- ان قراءة كتابا في تاريخ الامم الآسيوية او الاوربية يعطي انطباعا بان الكاتب المؤرخ لا تشغله فكرة التمجيد او ليّ عنق الوقائع لمنظومة فكرية او دينية مسبقة ، على حين نحرص -نحن العرب- ان يكون عرض ووصف الوقائع منسجما -اغلب الاحيان- مع توجهاتنا الدينية والفكرية والقومية ويظهر ذلك جليا في كتابة تأريخنا الاسلامي..
وهكذا سنعرف -في ظل دراسة مقارنة - انه لاتوجد امة في الارض غير العرب تحتاج الى اعادة النظر في كتابة تأريخها بصورة موضوعية وبالاخص مايتعلق بتأريخنا الاسلامي ، ذلك لان مصادر التاريخ الاسلامي الاولى التي وصلتنا كانت رواياتها الاصلية بعين ورقابة امراء الخلافة الاموية والعباسية ، كما كان تدوين الاحداث في نشأته الاولى لونا من الوان رواية الحديث ، ثم اتسع مجاله وجرى التدخل في وصف احداث تأريخية كبرى بما يلائم نظام الحكم وكثرت وتشعبت مادة التدوين التأريخي فشهدت تصاعدا ثرّا في القرن الثالث الهجري ومابعده والذي يعتبره معظم الكتّاب قرن المؤرخين حيث وصلتنا في العصر الحديث اسفارا جامعة في التأريخ تعد من المصادر الاولى منها : تأريخ الطبري لمحمد بن جرير الطبري ، والكامل في التاريخ لابن الاثير الجزري ، وتأريخ ابن خلدون ، ومروج الذهب لابي الحسن المسعودي ، وتأريخ اليعقوبي ، والبداية والنهاية لابن كثير الدمشقي ، والمنتظم في تاريخ الامم والملوك لابن الجوزي ، وسير اعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي...الخ
وان اغلب اصحابها كانوا على نسق عقائدي ومذهبي واحد ، ويلاحظ القارئ المدقق ان تدوين الاحداث ووصفها في تلك المصادر الكبرى كان مبنيا على اسس فكرية ومذهبية غير محايدة بل ان اغلبها غير مجرد من الرؤية المسبقة والحكم المسبق ، ولعل احمد بن اسحاق اليعقوبي في كتابه (تأريخ اليعقوبي) المطبوع في ثلاث مجلدات ، والمسعودي (ابو الحسن بن علي المسعودي) في سفره التأريخي (مروج الذهب ومعادن الجوهر) من اربعة اجزاء كانوا اكثر المؤرخين القدماء حيادية وانصافا في نقل الروايات ووصف الاحداث..
ومازال هذا الحال قائما الى يومنا هذا كما يُلحَظ في اغلب مقررات مادة التاريخ المخصصة للمناهج المدرسية والجامعية العربية.. وهو حال يدلل على الفخر الاعمى والعصبية المذهبية والقومية على السواء في الحق والباطل وفي الظلم والعدل بل وصل الامر بالبعض الى تبني المبدأ القائل :
(ان ولي الامر او الخليفة ان اصاب فله اجران وان اخطأ فله اجر واحد)
وفي هذا الصدد يقول الباحث محمد سلمان.. 1 :
(التأريخ ليس عقيدة ولاهو علم الحديث ولو انه يتفق مع رواية الحديث بوجوب امانة النقل ، بل انه اولى العلوم الانسانية بالنقد والتحليل والاستنتاج)..
2- لابد من الاشارة -هنا- ان هناك العديد من الدراسات الحديثة ودراسات المستشرقين منذ مطلع القرن العشرين كان فيها الكثير من الانصاف والاعتدال لانها اعتمدت بالاصل منهجا علميا في البحث..
ونذكر على سببل المثال دراسة الدكتور جواد علي في عشرة اجزاء الموسومة ( المفصل في تأريخ العرب قبل الاسلام) وهي ارفع دراسة اكاديمية علمية التزم فيها الباحث بمنج وصفي تحليلي يعتمد الامانة والتحقيق في النقل ، و كذلك الحال في كتاب جورج جرداق (الامام علي صوت العدالة الانسانية) وتاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي وكتاب الدكتور طه حسين (الفتنة الكبرى) وكتاب المحقق الشيخ باقر شريف القرشي (موسوعة ائمة اهل البيت) وغيرها..
3- لكي ننأى في الكلام عن التعميم والاطلاق بدون شواهد ، فلناخذ بعض المحاور الدالة عليه..
أ- نلحظ ابتداءا انه لاتوجد في اغلب المصادر التأريخية الاولى -المذكورة سلفا- وقفة واضحة صادقة وجريئة على قضية الاحداث التي جرت بعد وفاة الرسول الاكرم محمد (ص) وماجرى في عهد الخلفاء الراشدين (11هج -41هج) من احداث في الحكم ومن حروب وتشريعات ، لاسيما ماجرى في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي تمكن الامويون في عهده من بسط نفوذهم وسيطرتهم ، ليمهدوا بعد ذلك لانشاء مملكة الدولة الاموية، وماجرى كذلك في عهد الخليفة الرابع الامام علي بن ابي طالب من احداث وحروب ودور رسالي واضح في الحكم..
ب- لم يكن التدوين دقيقا جريئا لما جرى -فيما بعد- من احداث دامية في العصر الاموي الذي استمر قرابة مائة عام (41 هجرية - 132 هجرية/750 م) الذي شيد اركان ملكه العضوض معاوية بن ابي سفيان وتلقف الحكم فيه عبد الملك بن مروان بن الحكم وذريته..
حيث كان الاقصاء واضحا في تدوين الدور الرسالي الذي قام به الامام علي في اعادة شكل النظام والناس الى سيرة الاسلام الاولى في عهد النبي ، بل كان البحث جاريا عن هنات في حياته وشخصه ، ولك ان تتصور ان احدا من اهل الشام عندما بلغه استشهاد الامام علي في محراب صلاته قال (مالعلي والمساجد! ) كاشفا عن صورة التثقيف الاموي العام في الاساءة للامام علي وقد جرى سبّه على المنابر الاموية الى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي عرف باعتداله وعدالته ، كما كان الكتاب من وعاظ السلاطين يشحذون اقلامهم في الاساءة لابي طالب والشك في اسلامه وسنده للرسول امام صمت واضح عن افعال خلفاء بني امية ودورهم الهدام في الاسلام..
كما همشت ثورة الامام الحسين واستشهاده عام 61 هج مع نفر من اهل بيته وهم اهل بيت النبوة واصحابه وماجرى على السبايا من نساء اهل البيت ، وكذلك الحال في ثورة زيد بن علي بن الحسين في عهد هشام بن عبد الملك ، ولم يكن الوصف والتحليل لموقعة الحرة في عهد يزيد بن معاوية بمستوى هول الحدث التي استباح فيه قائده مسلم بن عقبة مدينة رسول الله عام 63 هج وقتل عدد كبير من الصحابة والتابعين مع سبي واغتصاب النساء المسلمات في المدينة ، وماجرى بعد ذلك في عهد يزيد ايضا من ضرب مكة بالمنجنيق بقيادة الحصين بن نمير عام 64 هج والتي اعاد فعلها الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي عام 73 هج..
ج- اعقب العصر العباسي عصر الدولة الاموية وقد اقام العباسيون مملكة مترامية الاطراف حكمت خمسة قرون (132هج - 656هج) وانتهت بسقوط بغداد على يد المغول التتار عام 656هج/1258 م..
-- وقد جاء العباسيون مبشرين بالعدالة واحياء القيم الاسلامية لكنهم سرعان ما انقلبوا على عقبيهم ليواصلوا القتل والتنكيل بأئمة اهل البيت واتباعهم حتى قال الشاعر ابي عطاء السندي وهو ممن شهد العصرين الاموي والعباسي :
ليت جور بني مروان دام لنا
وليت عدل بن العباس في النار..
كما ان المسعودي يروي في مروج الذهب رأيا بان الخليفة العباسي المنصور لقب بهذا اللقب لانتصاره على العلويين ،كما ان المتوكل العباسي الذي يصفه الوهابيون ب(محيي السنة) قد اعاد سبّ الامام علي على المنابر ومنع الناس من زيارة قبر ابي عبد الله الحسين ، وقتل بلا رحمة اتباع مذهب اهل البيت..
وقد صنف ابو فرج الاصفهاني كتابا في مقاتل الطالبيين من ذرية ابي طالب (جعفر وعلي ابي طالب) ستشعر حين تقرأه ان الويلات التي تعرض لها ذرية علي بن ابي طالب واهل بيت النبي في العصرين الاموي والعباسي الاول لايوجد لها مثيلا في التصفيات العرقية التي جرت في الامم ، كما ستدرك ان لا امة في الارض يمكن ان تنكل بذرية نبيها وتشهد له بالرسالة مثلما فعل الاعراب ومن هنا نتذكر قول رسول الله محمد (ص) ما أُوذي نبي مثل ما أوذيت..
ومما يجدر ذكره ان العصر العباسي الثاني قد شهد انفراجا في تصفية خصومهم لانه كان يمثل عصر الضعف العباسي في الادارة وتولي الامراء مقاليد الحكم في امصارهم..
-- ولغرض توضيح ماتقدم ذكره ، لابد ان نعرف ان الدولة العباسية مرت بعصرين تبعا لمقاليد القوة والمنعة :
* العصر العباسي الاول (عصر القوة او العصر الذهبي) بين خلافة عبد الله السفاح الى خلافة جعفر بن محمد المتوكل..
(132 هج - 247 هج)
* العصر العباسي الثاني (عهد الضعف والانحلال) بتشكيل دويلات في الامصار ترتبط شكلا بالخلافة العباسية في بغداد
(247 هج - 656 هج) وتميزت بثلاثة عهود في مقاليد الحكم :
- عهد سيطرة الاتراك (247هج- 334 هج)
- عهد سيطرة البويهين (334هج- 467 هج)
- عهد سيطرة السلاجقة(467هج- 656 هج) حتى سقوط بغداد على يد المغول التتار عام 656 هج/1258 م..
لكن الخلافة العباسية استمرت صوريا في القاهرة في عصر المماليك بعد انتصارهم في معركة عين جالوت الفاصلة عام 1261 على جيش المغول واستمر حكمهم (1261 م- 1517 م) ، اذ سيطر العثمانيون بعدها بقيادة سليم الاول على مقاليد السلطة في بغداد والشام ومصر ونقلت عاصمة الخلافة من القاهرة الى القسطنطينية (اسطنبول) ليبزغ عصر الامبراطورية العثمانية الذي دام اربعة قرون حتى افوله في الحرب العالمية الاولى (1914 م- 1918) على يد بريطانيا وفرنسا ليبدا مشوار الاستعمار الاوروبي ومشروع سايكس بيكو..
4- ان التأريخ لدى غيرنا من الامم وبالذات لدى امم اوروبا هو سجل للماضي فيه صفحات مشرقة ومظلمة ، فيه الحق والباطل ، وفيه الظلم والعدل وهم لايكترثون لوصف محطاته التأريخية بالايجاب اوالسلب بل لا يرجعون اليه الاّ لأخذ العبرة والدرس..
ويمكن ان نلحظ ان الاحداث التأريخية دونت فيه بمنهج وصفي تحليلي مجرد عن الفكر السبق والتعصب ويأخذ بنظر الاعتبار الامانة في العرض والتقويم..
وبهذا الصدد يمكن ان نشير الى :
أ- ان معنى التاريخ الوارد في درسهم لفلسفة التاريخ هو :
(ان التاريخ هو تسجيل ووصف وتحليل الاحداث التي جرت في الماضي على اسس علمية محايدة للوصول الى حقائق وقواعد تساهم على فهم الحاضر والتنبوء بالمستقبل) وان مهمة المؤرخ هي كشف وقائع جرت في الماضي بشكل موضوعي مجرد عن الافكار المسبقة والنزعة النفسية ، وتحري الامانة في البحث عن الحقائق)..2
لذلك نجد على سبيل المثال ان الالمان اليوم لايفتخرون بتأريخهم النازي الحديث بل يعتبرون منه فحسب في حاضرهم ومستقبل اجيالهم..
ب- ان المؤرخين والفلاسفة الاوربيين منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر الى عصر التنوير في القرن الثامن عشر قد جعلوا موضوع التاريخ هو الانسان وانه القوة المؤثرة في التاريخ ، حيث جدد المفكرون الاوربيون صورة الفكر اللاهوتي السائد في القرون الوسطى الذي صوره القديس اوغسطينوس بان التأريخ هو خطة الرب بأتجاه خلاص الانسان التي تبتدأ بخلق الانسان وتنتهي بيوم القيامة..
ج- اهتم المفكرون الاوربيون بدراسة التاريخ من منظور فلسفي واسماه فولتير الفرنسي فلسفة التأريخ وتبعه في ذلك ميشال فوكو ويعنى بدراسة (الاسس النظرية للممارسات والتغيرات الاجتماعية التي حدثت على مرّ التأريخ)..
وان هذا الاهتمام هو الذي جعل نظرتهم للاحداث التأريخية المنصرمة نظرة فاحصة تستدعي الامانة في النقل والوصف والتحليل لتكون درسا للحاضر وعبرة للمستقبل..
فمن محاور فلسفة التأريخ :
1-- دراسة معنى التأريخ ومناهج البحث فيه وكيفية التحقق من صحة الوقائع التأريخية ومدى صدقها ليكون وصف وتحليل الاحداث التاريخية موضوعيا..
2-- القوانين التي تحكم التاريخ..
وقد وجد كل من الفلاسفة الانكليزي ديفيد هيوم والالماني كارل ماركس والفرنسي اوكست كونت ان (التاريخ شأنه شان علوم الطبيعة من حيث ان هناك قانون عام يمكن بواسطته تفسير الاحداث التاريخية) لاسيما اذا اعتبرنا التأريخ بوصف الفيلسوف الالماني هيجل (صورة لتطور العقل البشري واتجاهه نحو الحرية) ، او ما اعتبره ماركس من ان التطور المادي اي (الاقتصادي) للمجتمع عبر تطور وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج هو المحرك الاساسي للتغيرات الاجتماعية الكبرى..
مع ان هناك مدرسة آخرى ترى :
( أن التاريخ لا يعنى باكتشاف النظريات وأن مهمة المؤرخ هي تحديد ما حدث في الماضي بأمانة ولماذا حدث )..
3-- البحث في اتجاه التاريخ وذلك بسعي الانسان صوب التقدم والحرية في طروحاته الفكرية والدينية واكتفاءه الاقتصادي..
او البحث في تركيب التاريخ عند النظر الى التاريخ الحضاري الانساني برمته وليس التأريخ السياسي المعني بالاحداث السياسية- الاجتماعية لكل امة فحسب ، وهو ماذهب اليه المورخ الانكليزي ارنولد توينبي والالماني اسوالد شبنغلر الذي كتب ابلغ دراسة في الربع الاخير من القرن العشرين في كتابه (تدهور الحضارة الغربية) وقد ترجم الى العربية بثلاث مجلدات..
وبهذا الصدد يرى المؤرخ الكبير ارنولد توينبي في كتابة (دراسة في التاريخ) ان سقوط الحضارات يعود الى ثلاثة عوامل اساسية قد رسمها بدقة متناهية :
1- ضعف القوَّة الخلاَّقة في الأقلـيَّة الموجِهة وانقلابها إلى سلطة تعسفية
2- تخلِّي الأكثرية عن موالاة الأقلِـيَّة الجديدة المسيطرة وكفِّها عن محاكاتها.
3- الانشقاق وضياع الوحدة في كيان المُجتمع.
كما فسّر توينبي نشوء الحضارات الأُولى أو كما يسمِيها الحضارات المنقطعة من خلال نظريَّته الشهيرة (التحدِّي والاستجابة) التي استلهمها من عِالم النَفس السلوكي الذي عاصره كارل يونك ويقول ان حال انهيار الحضارات الاولى يشبه الى حد كبير حال الفرد حين يتعرض لصدمة قد تفقده توازنه لفترةٍ ما، ثمّ يستجيب لها فيما بعد بنوعين من الاستجابة :
الأُولى : النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضا عن الواقع المرّ فيصبح الفرد بذلك انطوائيًّا وهي تعتبر استجابة سلبية ، وهذه الاستجابة تنطبق على الامم احيانا ولعل امة العرب اليوم اقرب الى هذا الحال حيث لجأت الى النكوص للماضي دفاعا عن النفس..
والثانية : تقبُّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثم محاولة التغلب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيًّا وهي بوصفه استجابة ايجابية ، ولعل هذه الاستجابة تنطبق على الامم التي تأخذ بالعبرة وتستجيب للمتغيرات كما حصل في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية..
* نستنتج مما سبق ان المورخين والمفكرين الاوربيين كانوا يبحثون في ضوء فلسفة التاريخ ومناهج بحثه عن الحقيقة في وصف وتحليل وقائع التأريخ واحترام حرية الانسان فيه ، على حين نظل نحن العرب أُسارى لرؤانا العقائدية والمذهبية والقومية فلا ندرس التاريخ الا ونحن نتأبط شرا بغيرنا بوعي وارادة مسبقتين ولانتوخى بالنتيجة الانصاف والامانة في كتابة التاريخ الاسلامي..
-------------------------------------------------------------
1- علم التاريخ ومهمة المؤرخ / دراسة ايمان الحياري
2-خلط التأريخ بالعقيدة /الباحث محمد سلمان
3- ارنولد توينبي قراءة التأريخ /عثمان حسن
***************************************
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق