ما ترويه الشمس ما يرويه القمر.. قراءة لقصة قصيرة من ادب السجون العراقي للقاص حامد فاضل الرميثي

قراءة في قصة قصيرة من ادب السجون العراقي.. 

خالص الشكر لادارة مجلة الافق الفصلية التي نشرتها في العدد الرابع/2022.. 

(ما ترويه الشمس ما يرويه القمر)..قصة تصور -بمهارة الفنان- مأساة سجناء الرأي في المنفى  الصحراوي العراقي (نگرة السلمان) وهي ضمن مجموعة قصصية تحمل نفس العنوان للقاص المبدع المرحوم حامد فاضل الذي رحل الى بارئه في حزيران/2021..

ولعلها  القصة الأمثل لغة وتصويرا فنيا لمأساة نزلاء ذلك السجن الرهيب في قلب صحراء السماوة الغربية ، ولحلم الحرية في الهروب عبر تلك الصحراء القاسية الى مدن غرب الفرات والذي ينتهي -عادة- بفاجعة الموت في صحراء لاترحم..

يعدّ هذا السجن من اسوء السجون السياسية في العراق والعالم لدرجة ان الشرطة تترك للنزلاء باب السجن مفتوحا (ليدخلوا ويخرجوا على راحتهم) لان الهروب منه لا طائل له ولا مفرّ  لصاحبه من الموت في صحراء جرداء لاشاهد فيها الاّ الشمس والقمر ولارفيق غير كثبان الرمل المتحركة ووحوش الصحراء..

1- تصور حبكة القصة -في ضوء حركة الاحداث والزمن- تلك المأساة عبر حكاية ثلاث سجناء تعاهدوا على الفرار من بؤس الحياة في ذلك السجن الصحراوي الموحش، واتفقوا على اختيار طريق القفر لا طريق (النجوع) الذي يسلكه -عادة- الشرطة لملاحقة الفارين من السجن وعصابات التهريب لانه يمر على (الفيضات) وهي منخفظات تتجمع فيها مياه الامطار ، اذ لا تظن الشرطة -في أول الامر - ان الهاربين سيختارون طريق القفر حيث الموت عطشا او فريسة للذئاب ، مما يكسب الاصدقاء الثلاثة متسعا من الوقت للوصول الى قرى غرب الفرات..

يحمل السجناء الثلاث (زمزمية) للماء لعلها تكفيهم لمقاومة بطش الصحراء.. لكن رحلة الصحراء لاتكشف لهم اوراقها دفعة واحدة ولا تعكر في خطواتهم الأولى صفو حلمهم بالحرية وهو يناغم طلوع الفجر..  لكن قسوتها تشتد عليهم شيئا فشيئا في زمن لايطول غير ثلاث ليال ونهارين ليودع الدنيا آخر الاحياء منهم وهو (الرجل الطويل الاصلع) في صباح النهار الثالث عندما يعود ادراجه عاريا ويلفظ انفاسه عند بوابة السجن بعد ان (انغرز خنجر العطش في كبده)..

وكان هذا الرجل الطويل قد ودّع صديقيه قبل رحيله اذ لقى (الرجل القصير السمين) حتفه في الليلة الثانية بسبب علة في كليته الوحيدة بعدما رفع كليته الاولى وهو طالب في الجامعة وقد دفنه صديقاه في الصحراء ، اما صديقه الآخر فقد فارق الحياة عطشا في نهار اليوم الثاني ، وعثرت قافلة الشرطة على جثته بصحبة (البدوي القواف) الخبير بطرق الصحراء بعد ان قرر مأمور السجن اختيار طريق القفر في اليوم الثاني من مطاردتهم وفي نفسه -المأسورة بالظلم- اصرار الحانق ولهفة طالب الثأر للظفر بهم واذلالهم.. 

------------------------

2- في رواية الاحداث..جعل القاص -الذي يمتلك ادوات الفن القصصي ببراعة ومهارة- ان يكون الراوي العليم هي الشمس في النهار والقمر في الليل ، فهما الشاهدان الوحيدان على الاحداث الرئيسية في القصة يتداخل معهما حوار السجناء المحدود وتداعيات افكارهم ، ليشكلوا معا نسيجا محكما ومتلائما جميلا في حبكة الاحداث حتى ان القارئ لايلمس تدخلا مباشرا للكاتب بل يستشعر ان ايقاع رواية الاحداث ياتي متناغما سلسلا..  وان لغة السرد بصورها الفنية وتراكيبها اللغوية المفعمة بالمفردات الشعبية الخاصة بقاموس الصحراء تحلق بذهن القارئ في عالم الفيافي وتأخذ بخياله الى صور بؤسها وقسوتها ، والى ما يحمله سجين نگرة السلمان من شوق الى الحياة الحرة الكريمة ، فنقرأ تصويرا فنيا جميلا يثير النفس ويستعر له الوجد كما يحرك في الذهن شريطا سينمائيا يشد الجوارح صوب عالم الصحراء ورحلة الشوق الى الحرية عبر كثبانها وذئابها حيث تتكافئ الحرية والموت كعنصرين متوافقين في سبيل موحش طلبا للخلاص من الظلم والذل والعبودية..

ولتوضيح سرد الراوي في ذلك نجد ان اسماء السجناء الثلاث والتعريف بهم لم تكن الا بالصورة التي ترويها الشمس ويرويها القمر ، فهما لايعرفان -بالواقع- اسماء الهوية الشخصية :

فالاول عندهما : هو (الطويل الاصلع) 

والثاني : هو (القصير السمين) 

والثالث : هو (الذي لم يكن طويلا ولا اصلعا ولاقصيرا ولاسمينا) 

 فيروي القمر - على سبيل المثال- حال الشخص الثاني قبل ان يودع الحياة قائلا :

(رايت في عينيه طفلا صغيرا يحبو ، ثم شابا مرفوعا يهتف في تظاهرة ، ثم سجينا يعاني وراء القضبان) ، لكن عندما بدأت روحه تفيض الى بارئها في وحشة الصحراء كان القمر يقول حيث لايبصر الروح كالجسد المسجى :

(ثم شيئا لا ابصره انا ، بل ابصره هو رفع يده محاولا ان يمسك بذلك الشيء (اي روحه) ثم اسقطها فارغة وشهق وراء ذلك الشيءالذي حملته اجنحة نسيم الغبش لتترك جسده مسجى بين اذرع رفيقيه)..

كانت صورة موجعة للقلب بقدر واقعيتها وسحر بيانها..

وان رواية الاحداث صورت بشكل فني جميل ومتقن واقع علاقتي الشمس والقمر بالصحراء ، كأني بالقارئ يستشعر حرّ الهجير في الصحراء برواية الشمس ، كما تطيب لقلبه رواية القمر الحانية التي تومض بالعطف والفخر على اصرار الرجال لاسيما ذلك (الرجل الطويل الاصلع) الذي كان آخر من رحل منهم ظمآنا عاريا من شدة القيظ وفي روحه بذرة الاصرار والشوق الى الحرية..

واعتقد ان خنجر الظمأ الذي عاد بهذا السجين الثالث مكرها الى السجن ، وموته قرب بوابة السجن ، بقدر ما كان مؤلما يحبس الانفاس ويؤكد عبثية الاقدار في عهود الطغاة ومدى بشاعتهم ولؤمهم في انشاء سجن المنفى الخرافي هذا..  

فأنه يؤسس لمعنى الحرية في الخلاص.. ذلك ان احرار الرأي والمقاومة الذين ينشدون الحرية لا يعودون الى متسع حظائر الطغاة بعد الخلاص الاّ موتى ، وأن ترقد النفس بسلام في قبر صغير هو أكرم لها من مطامير الذلة بين أيادي الظالمين وكينونة الموت في الحياة.. 

--------------------------

3- في اللغة والمكان وسيكولوجيا السرد :

أ * اعتقد ان من يبحث عن الموائمة بين لغة الفن القصصي والمفهوم الجمالي للمكان سيجد في هذه القصة القصيرة مثَلا نمودجيا.. 

ذلك ان لغة النص التي نقرأها في سرد الراوي (الشمس والقمر) وتداعيات افكار شخوص القصة تكشف عن مهارة مكينة في خلق صور فنية تتوائم فيها ثلاث عناصر هي سحر البيان في الوصف ، وواقعية التصوير الخاص بطبيعة الصحراء وقاموس مفرداتها ، مع تطور معاناة الرحلة في ساعاتها بين النهار والليل وبين العطش في الهاجرة والذئاب المتلصصة الغادرة في الليل حتى ينتهي بالظمأ القاتل الذي يسلب اللب بالهذيان وخلع الملابس والالتصاق بالرمل وعبث البحث عن الماء بنبش الرمال..

كما نقرأ كلمات لايألفها الاّ من عرف الصحراء وقاموسها اللغوي الشعبي او سكن الحواضر القريبة منها كال (الفيضات/الكارات/الرجم/النفود) ، ونقرأ مثل هذه الصورة الدالة عن قسوة الحر :

(في الهجير يهجر الحوم فضاءه وتسخن ظهور الكارات)،

وقد عرّف الكاتب عن المفردات في خاتمة القصة..

(الفيضات : اماكن منخفضة في الصحراء تتجمع فيها مياه الامطار .

الكارات : اماكن مرتفعة

الرجم : اماكن مرتفعة وتدعى الرواقم

النفود : خط رمال عال)

الهجير/الهاجرة : نصف النهار في القيظ او الحر الشديد

كما ان وصف المكان في السرد نجده غني التعبير والدلالة ، وهو بقدر ما يحرك مشاعر القارئ بين الأمل واليأس فانه تاخذ بمخيلته الى صورة المكان والحدث والتفاعل معهما بما يجعل القارئ كشاهد ثالث خلف الشمس والقمر - بزاوية نظر آخرى- تتعلل بالآمال وتنشد الصبر والعزيمة للسجناء الثلاث كأن القارئ يرقب عالمهم بمنظار من غرب الفرات ويشعر بمتاعبهم حيث كثبان الكارات الرملية وظلال الرجم والهجير والذئاب والمعاناة في الصحراء القاسية الموحشة..

ب * يضيء السرد -من  زاوية سيكولوجية-جوانب عميقة الغور في سلوك الشخصيات توكد مهارة القاص وابداعه على المستويين الفني والنفسي ويمكن ان نلحظ ذلك في ظل حبكة القصة حتى مقطع الذروة   :

1- سلوك مأمور الشرطة بعد فرار السجناء الثلاث ، كما ترويه الشمس صباح اليوم الاول :

(ارى المأمور يتحرك بعصبية ، يتفقد السلاح والسيارات والشرطة ، زاعقا لاعناً آباء السجناء واجدادهم وعلى وجهه ذي السمرة الداكنة -التي تشي بمسؤوليتي عنها- يطفو مزيج من الخوف والطمع ، الخوف من ان يتمكن السجناء الهاربون من الوصول الى مدن الفرات فيختفون.. والطمع بلحظة الانتصار والاحساس بالهيمنة عند القاء القبض عليهم واعادتهم الى مدلهم السجن)

2- وصف تداعيات السجناء قبل الموت في الصحراء ، كما يروي القمر تلك الليلة الثقيلة الاخيرة في حياة الرجل الطويل الاصلع :

(ياقمر الدنيا... ليتني املك جناحي البراق لطرت اليك اعانقك في علوك السامي وانظر الى العالم السفلي.. الى ساحة السجن حيث يرقد السجناء الآن ، لعل فيهم من بقي ساهرا يتساءل عن مصيري ، انظر الى سطح دارنا حيث يرقد اهلي تاركين جرار الماء واشياف الرقي مكشوفة تحت السماء علّها تبرد بنسيم آخر الليل وهناك تغفو طفلتي الصغيرة تخبئ وجهها في صدر امها خوفا من الخفافيش... )

3- صمت البدوي القواف -في موقف نبيل-  عند رؤيته آثار السجين الثالث المتخفي بين اخاديد الرمل عندما عثرت قافلة الشرطة على صديقه الثاني جثة هامدة واكتفت عيناه بتعبير العارف الساخر ، كما تروي الشمس :

(لم يزح لثامه عن فمه ، صعد الى السيارة وجلس جنب المامور وعلى صفحة عينيه برقت ابتسامة ساخرة..)

4- تصوير واقع الخوف والريبة بين السجناء الثلاث والذئب برواية القمر :

(اشعلوا سكائرهم وصاروا يمشون متلاصقين وهم يراقبون الذئب بأطراف عيونهم ، اوجس الذئب منهم خيفة ، فحافظ على المسافة التي تفصله عنهم واستمر يراقبهم بعينين متوهجتين مثل رؤوس سكائرهم ، سرى الليل وهم يتوجسون من الذئب والذئب يتوجس منهم ، ثم بلمحة بصر فتحت الصحراء فمها وابتلعت الذئب..)

عن الكاتب "فلان"

وصف موجز عن الكاتب هنا، كما يمكنكم متابعتي عبر المواقع الإجتماعية أدناه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Translate

إبدء الكتابة للبحث ثم أنقر enter